فيلم (بفضل الله)… بوح الضحايا أمام المجتمع الصامت والمتواطىء

في مؤتمر صحفي حول قضية الاعتداء الجنسي التي تفجّرت في فرنسا عام 2016م، إثر اكتشاف عشرات الضحايا الذين تعرضوا للاعتداء الجنسي من قبل الأب “بيرنار بريينات” بين عامي 1986- 1991م، وتعقيباً على بيان أبرشية ليون، وفي معرض رده على سؤال أحد الصحفيين حول تهمة “البيدوفيليا” الموجّهة للكاهن، قال الكاردينال “فيليب بارباران”: (هل هذا مسموح به أم لا؟ منصوصٌ عليه قضائياً ربما، القانون سيقول كلمته. غالبية الأفعال بفضل الرب مسموح بها، والبعض منها لا).

أثارت عبارة (بفضل الله) غضب الحضور من الصحفيين والعامة، إذ اعتبروها نوع من التغطية على جريمة الانتهاك، أو تجاهلها، فوفقاً لتعاليم الرب وبفضله، كأنّ هذا لم يحصل، مع أنه قد حصل، وتعبير عن سرور الكاردينال بإفلات الجناة من العقاب.

هذه العبارة كانت عنوان الفيلم الذي أخرجه المخرج الفرنسي “فرانسوا أوزون”، ويستعرض فيه قصص الضحايا الذين أسسوا معاً جمعية “الكلمة الحرة”، وخاضوا معركة طويلة مع المجتمع والكنيسة والقضاء في مدينة ليون الفرنسية، حتى استطاعوا رفع دعوى قضائية ضد الكنيسة، من أجل إدانة الاعتداء، ورد الاعتبار لأنفسهم، وفضح المسكوت عنه، وتشاركوا مع بعضهم بعض الآلام الناجمة عن آثار الاعتداء الذي تعرضوا له، بعد مرور عقود على تلك الاعتداءات.

المخرج “فرانسواز أوزون” وجائزة من مهرجان برلين السينمائي

القضية التي بدأت منذ عام 2016م، ولحين صدور الفيلم، كانت ما زالت عالقة في المحاكم الفرنسية، ورفع الكاهن المُعتدي دعوى قضائية ضد الفيلم، أوقفت عرضه في السينما الفرنسية، حتى حاز الفيلم على جائزة التحكيم الكبرى في مهرجان برلين السينمائي، فسمح بعد ذلك القضاء الفرنسي بعرضه، رغم الدعوى المرفوعة ضده من الكاهن المُعتدي.

*إدانة المجتمع البرجوازي المتواطىء… وموقف الكنيسة الفرنسية من قضايا الاعتداء الجنسي على الأطفال 

بالرغم أن وقائع الفيلم تستند إلى أحداث واقعية، إلا أنه – على عادة الأفلام السينمائية – يُشار في بداية الفيلم أنه فيلم خيالي يستند إلى أحداث معروفة، ولم يكن الفيلم فيلماً وثائقياً، وإنّما فيلم درامي، روائي، يستند إلى سرد قصص عدد من الضحايا، ويبدأ بمشهد أول الضحايا “الكسندر”، موظف البنك، ورب الأسرة المتدين الكاثيوليكي، وزوجته معلمة المدرسة المحافظة، وأولاده الخمسة اللذين يحرص على تعليمهم الديني وعلاقتهم الجيدة مع الكنيسة، وبصوته يقرأ رسالة أرسلها إلى المسؤول عن الأبرشية الكاردينال “بارباران/فرانسوا مارثوريت”، ويسرد “الكسندر” في الرسالة، بعد أن يوضح للكاردينال أمر إيمانه الكاثوليكي، تعرضه للاعتداء من قبل الأب “بريينات/ بيرنار فيرلي” في مخبر التصوير بالرعوية الملحقة بالكنيسة، وخلال مشاركته في رحلات الكشافة بالبرتغال، وكيف اكتشف تعرُض آخرين للاعتداء ذاته من الأب نفسه من خلال لقائه بزميل دراسته في مدرسة أولاده، وبالصدفة أيضاً يكتشف أن الأب “بريينات” ما زال موجوداً في الكنيسة، ويقوم بمهام رعوية مع الأطفال، ويتساءل “الكسندر”، فيما إذا كان الكاردينال يعلم بهذا الأمر، وما حكم الكنيسة على الأب المعتدي، وهل نال أية عقوبات؟

مشهد من الفيلم، الكسندر في قداس بالكنيسة

بينما يُبدي الكاردينال تعاطفه مع ألم “الكسندر”، وأسفه عما تعرض له، يتجاهل الحديث عن أي عقوبة للأب المعتدي، ومع إصرار “الكنسدر” تقوم الكنيسة بإجراء وحيد، وهو الجمع بين الكاهن وبينه، والذي لم يُنكر الاعتداء واعترف بما فعله، وعبّر عن أسفه مما تسبب به من ألم لالسكندر، لكنه لم يطلب منه الغفران كما توقّع الكاردينال منه وأراد أن يفعل، واختتم اللقاء بصلاة مشتركة تجمع الضحية والجاني، في طقس ديني يرمز إلى التطهير، وكأنّ الأمر ينتهي هنا، ويواصل الأب عمله مع الأطفال، ومهامه الرعوية، ويقود قدّاس يوم الأحد، وكأن شيئاً لم يكن.

بات الكسندر في منتهى الاستفزاز من سلوك الكنيسة، وعلى رأسها الكاردينال “بارباران”، وأرسل عدة رسائل إلى بابا الفاتيكان، وتوقّع أن يُستبعد الكاهن المعتدي كأبسط عقوبة ممكنة، لكن هذا لم يتم، فذهب إلى الشرطة وتقدم بشكوى ضده وضد مسؤولي الكنيسة، ويُقنع زميل له تعرض للاعتداء للقيام بالفعل ذاته، لكن قضيته ستكون خاسرة، لأنه ينطبق عليها قانون التقادم، وعندما بدأت الشرطة بالتحقيقات، وعادت إلى ملفات الكنيسة، بدأت تتكشف سلسلة من جرائم الاعتداء على عدد كبير من الأطفال، الذين تشاركوا النشاطات نفسها في الكنيسة، وشاركوا في رحلات الكشافة خلال الفترة الزمنية ذاتها.

مأساة الضحايا بدأت تنكشف للعلن، وبين عدم تقبل رواية ما حدث لكل منهم، والخوف من ردود فعل المجتمع، والحرص على عائلاتهم، يتشجع بالنهاية غالبيتهم، ويتقدمون بشكاوى ضد الكاهن، وضد الكنيسة التي تجاهلت رسائل بعض الأهل، وتجاهلت شكاوى الضحايا، ولم توقف الكاهن المعتدي عن العمل.

لكل ضحية قصة مأساوية، وإذ تجاوز بعضهم بمساعدة ودعم الأسرة، آلام ما تعرضوا له، فإن آخرين قد تدمّرت حياتهم بشكل كامل، وتعرضوا لأذية كبيرة، فالضحية الأولى “الكسندر” أصبح لديه ضيق تنفس بعد أول تحرش تعرض له، وبقي ملازماً له على امتداد ثلاثين عاماً، ضحية أخرى تتغير ميوله الجنسية ويُصبح مثلي الجنس ولم يتقبل هذا الأمر، ولإنهاء العذاب والصراع النفسي يعيشه ينتحر، وبينما شقيقه يُحمّل نفسه الذنب بعدم قدرته على حماة أخيه، وأحد الضحايا يعيش مع إعاقة دائمة ( انحناء القضيب خلال الانتصاب)، وميول جنسية مزدوجة، وبينما يذهب آخر إلى الإلحاد والموقف المتطرف جداً تجاه كل ما يخص الكنيسة، مما يخلق صدام مستمر بينه وبين عائلته، والاستنكاف عن مشاركة أطفاله نشاطات أعياد الميلاد والذهاب للكنيسة.

مشهد من الفيلم

موقف أسر الضحايا أيضاً، كان أحد المحاور الأساسية في الفيلم، فغالبية الأسر تجاهلت شكاوي الأطفال عندما أبلغوهم بالاعتداء، ولم يستمعوا لأطفالهم، ولم يصدقوهم، ومنهم من اعتبر مجرد إثارة الحديث عن الأب “بريينات” هو إساءة للكنيسة، وللأب نفسه الذي كان يتمتع بمكانة كبيرة في مجتمع مدينة ليون، ويحظى بسمعة ممتازة بين الأهالي، واعتبرت مثلاً عائلة “الكسندر”، إن إثارة هذه القضية مجرد غرق في القذارة، وإثارة للقرف، وهو الموقف نفسه الذي اتخذته العائلة عندما كان طفلاً وأخبرهم عن الاعتداء عليه، ولم يتغيروا طوال ثلاثين عاماً لاحقة، والأسرة الوحيدة التي أبدت ردة فعل إيجابية مع طفلها، كل ما قامت به هو مراسلة الكنيسة، والكاهن المعتدي، ولكن لم يتم تغيير شيء إطلاقاً، بينما منعت بعض العائلات أطفالها من الذهاب إلى رحلات الكشافة، أو أوقفت بعض هذه الرحلات، وشعر بعض الأطفال بالذنب كون الرحلة ألغيت بسببهم، وهم يحبون الرحلات هذه، بينما قامت الكنيسة بنقل الأب لفترة بسيطة إلى منطقة أخرى، ومن ثم عاد بعد عدة شهور لمهامه المعتادة، حتى أنه كان سيتم إرساله للقيام بمهاك رعوية إلى لبنان خلال الفترة التي بدأت تتوالى الشكاوى ضده، وهي الشكاوى التي تعرفها الكنيسة عن كثب، حتى من قبل الكاردينال السابق، وتحتفظ بالرسائل والشكاوى تلك في أرشيفها.

مشهد من الفيلم، الكسندر مع زوجته

في تساؤل ما يمر خلال الفيلم: ( لماذا يتستر الكاردينال على الأب بريينات؟)، يكون الجواب: (لأنه الأب يجلب الكثير من المال والمؤمنين للكنيسة!).

اللافت في هذه القضية، ويختلف عن كل قضايا التحرش والاعتداء الجنسي المُعلن عنها سابقاً في الكنائس، إن الأب “بريينات” كان يعترف بجريمته، ويعتبرها “علة” ومرض، ويقول أنه قد أخبر كل التسلسل الهرمي الأعلى منه مسؤولية في الكنيسة عن ولعه وانجذابه للأطفال، ومع ذلك لم يفعل أحد شيء، بينما يُفسر الكاردينال”بارباران” عبارة (الانجذاب الجنسي للأطفال)، على أنها محبة الأطفال التي أوصى بها الرب! ويرفض بشكل قطعي تسمية حالة الكاهن بال”البيدوفيليا”.

وحدهم الضحايا من تحملوا الوجع المستمر، وصمتوا عقود، قبل أن يقرروا فضح المعتدي، والإصرار على محاكمته، والتخلص من آلامهم، وكل الضحايا خلال طفولتهم شعروا بالذنب والخجل،وخافوا من الوصمة الاجتماعية، وتداول الشائعات، وعاشوا فوضى المشاعر والالإكار والمخاوف والقلق، إذ يقول أحد الضحايا الذي لم يُخبر أحد إطلاقاً بما تعرض له: ( ماذا كنت سأجني سوى الحصول على صفة متحرّش به مدى الحياة)، حتى أن بعضهم لم يكن في البداية قد فهم ما تعرض له الضبط، وكان يشعر بالتمييز بأنه مقرب من الأب”بريينات”، ويقول أحد الضحايا عن عمق الأثر الذي يتركه الاعتداء الجنسي:

(إن هذا الاعتداء ليس مجرد اعتداء جنسي فقط، بل هو اعتداء روحاني، لأنه يسرق إيمانك)، ويشرح كيف تتم محاصرة الضحية خلال فترة الاعتداء بسلوكات تبدأ تدريجياً: ( أولاً، أنت تقوم بمهام بأمر الرب، ثم يتم إلقاء عليك نكات جنسية، ومن ثم عرض مجلة إباحية، لتصل إلى مرحلة ممارسة الجنس الفموي، ولن ترفض، لأنك مُحاصر).

بعد جهد طويل، يتمكّن الضحايا من تحدي المجتمع الذي كان يتواطىء مع الكنيسة، وتُرفع القضية ضد الكاهن المعتدي، وضد الكاردينال “بارباران” أمام المحكمة،  بعد توّفر عدد كافٍ من الذين لا يشملهم قانون التقادم، وكان أمام الضحايا جميعاً درب طويل من الكفاح، أمام المجتمع المحلي، وسلطة الكنيسة التي تتمتع بنفوذ واسع لدى الطبقة البرجوازية في المجتمع والتي تتواطىء بشكل واضح مع الكنيسة وتخضع لنفوذها، وأيضا سلطة القانون نفسه، التي تُسقط التهم والعقوبات بحكم التقادم، والذي يُحدده القانون بمدة 20 عاماً.

المشهد الأكثر سريالية في الفيلم، كان المشهد الأخير، الذي يجمع بين “الكسندر” وابنه الأكبر، ويخبره بأن جائزة المواطن الفخري لمدينة ليون قد ذهبت هذا العام للكاردينال “بارباران”، يلتفت الشاب الصغير إلى والده الذي حرص على تربيته تربية كاثوليكية صرفة، وتعميده وتثبيته، ومداومته على حضور كل قداس، ويسأله: ( بابا، هل ما زلت تؤمن بالله؟).  

  • واقعياً، وبعيداً عن أحداث الفيلم، وجهت التهمة إلى الأب “بريينات” في كانون الثاني/يناير 2016م، وما زال لم يُحكم حتى اليوم، بينما حُكم على الكاردينال “بارباران” عام 2019م، بالسجن لمدة ستة أشهر مع وقف التنفيذ، بتهمة التستر على انتهاكات ارتكبها أحد كهنة أبرشيته، وقدم استقالته لبابا الفاتيكان الذي رفض الاستقالة حسب بيان أصدره الكاردينا ونشرته الصحافة الفرنسية بتاريخ  19/03/2019م، ومن الجدير بالذكر أنه الكاردينال “بارباران” هو ثالث أسقف يُدان بهذه التهمة، وقد أدين قبله أسقفان عام 2001 و2018م، كما مددت المحاكم الفرنسية قانون التقادم ليُصبح ثلاثين عاماً.  

إعداد: خولة حسن الحديد.