*قصة من ملفات الشرطة السورية، يرويها ضابط شرطة سابق.
اليوم هو يوم الجمعة، وبالتالي فهو يوم العطلة الرسمي لدى الجميع إلا في قسم الشرطة
الساعة الثامنة صباحاً، وأثناء تواجدي في غرفتي نائماً بعد يوم عمل شاق، سمعت صوت قريب من القسم لإطلاق عدة عيارات نارية.
على الفور تم استنفار العناصر، وإرسال دورية للمكان وخرجت معهم، لنشاهد شاباً يحمل بيده مسدساً ويشير فيه إلى جثة امرأة ممدة أمامه على الأرض.
طلبنا منه رمي المسدس وتسليم نفسه، وكأفلام السينما المصرية مسك المسدس من فوهته، ورمى به باتجاهنا، ثم جثى على ركبتيه ورفع يديه، وتم إلقاء القبض عليه، والاتصال بالإسعاف والكشف على مكان الجريمة وتأمينه، وتحريز الأدلة، من مسدس حربي وطلقات، وتم إسعاف الفتاة التي تبين أنها فارقت الحياة قبل وصولها المشفى، نتيجة إصابتها بست طلقات في الظهر والبطن والصدر والرأس.
تم إحضار الجاني إلى القسم، واعلام القاضي والطبيب الشرعي، اللذين حضرا للقسم بعد الكشف على الجثة، وأكّدا الواقعة وسبب الوفاة وزمنها.
جلست والقاضي في مكتبي لإجراء التحقيق الأولي مع القاتل، الذي تبين أنه شقيق الضحية.
بدأ الاستماع له كالتالي:
اسمي مصطفى وأبلغ من العمر 22 عاماً، أقيم في جبل الزاوية في محافظة إدلب، برفقة شقيقتي وشقيقي، وأنا الابن الذكر الأكبرلوالديّ المتوفين منذ حوالي 3 أعوام وعلى التوالي، أنا عازب، أدرس في كلية الآداب فرع اللغة العربية في إدلب، والمتفوق الأول فيها، وكنت من الأوائل على محافظتي في الشهادة الثانوية العامة.
المقتولة تكون شقيقتي، وهي مطلقة منذ حوالي عامين.
تزوجت عندما كانت في سن السادسة عشرة لقريب لي، وبقيت لديه لمدة خمسة أعوام أنجبت له ولدين لم تراهما منذ طلاقها، فلقد قام بحرمانها من رؤيتهما، كما أننا كعائلة وأعمام وأخوال وقفنا بوجهها ومنعناها من ذلك، وذلك بعد نزاع كبير مع عائلة زوجها حول حدود أرض مشتركة، وتم اتخاذ قرار مقاطعة العائلة نهائياً.
بقيت في المنزل عامين كاملين، وهي تذوب في حزنها وبكائها كشمعة أغرقت في ظلامها، كان الحزن يأكل كل ذرة من نفسها، كما كانت الناس تلوك قصتها بتأويلات متعددة، وتتهمها بعدة تهم بعيدا عن الخلاف الأصلي.
لم أستطع فعل شيء، بسبب قرار المقاطعة، بقيت على تلك الحالة عامين كاملين دون أن يتغير في الأمر شيء.
وفي أحد الأيام….استيقظت صباحاً لأجدها هربت من المنزل، ورغم بحثي عنها، وبحث العائلة لعدة أيام في القرية ولدى الأقارب، إلا أننا لم نجدها.
بدأت الناس تختلق قصصاً، وتنسج روايات حولها، حتى أتى خبر من أحد السائقين الذي يعملون على شاحنة لنقل البضائع بين المحافظات، أنه شاهدها في أحد الملاهي الليلية التي تنتشر في سهل الغاب، والذي يؤمها السائقين أثناء استراحاتهم، وهنا بدأ الناس في قريتنا يرمقوننا بنظرات الشذر، ويُسمعوننا كلاماً جارحاً أنى التفتنا وفي أي مكان وجدنا، حتى أقاربنا وأخوالنا وأعمامنا نبذونا، ولم يعودوا يستقبلوننا في منازلهم، وكنت أسمع شجارهم مع زوجاتهم وأزواجهم، كيف يستقبلون (أشقاء عاهرة(
خيّم الظلام مجدداً على دارنا، وأنطفأت البسمة وأي مظهر للفرح في البيت.
كانت النار في صدري تكاد أن تأكلني، وأنا أشاهد اخوتي تعلوهم خيمة الحزن والقهر، وهم المتفوقين الأوائل في مدارسهم.
حتى أنا كنت منفصلاً عن الواقع، وأهملت دراستي وسط تعجب أساتذتي وأصدقائي، ولم أستطع اخبار أحد عن المشكلة التي تلحق عاراً بصاحبها، وتوسمه بوسام مخزٍ.
كنت أجلس بيني وبين نفسي كل يوم طويلاً، أفكّر وأفكّر فيما أفعله في هذه المصيبة العظيمة.
اخيراً …قررت أن أترك كل شيء، وأبحث عنها، وأحضرها إلى القرية، ثم أغسل عارنا وأقتلها أمام الجميع، ونستعيد ماء وجههنا، فاشتريت مسدساً صغيراً، وانطلقت في رحلة البحث.
عام كامل …تنقلت من محافظة لمحافظة ومن مكان لمكان، ومن مشفى لقسم شرطة لبيت دعارة لملهى ليلي، قابلت فيها أشخاص متعددين، حتى اهتديت إليها في محافظة اللاذقية، مسجونة في السجن المدني بتهمة ممارسة الدعارة، حيث كانت تعمل لدى إحدى دور البغاء في الشاطئ الأزرق، وقد ألقي القبض عليها أثناء ذلك.
قابلت كاتب القاضي ف، ورقم هاتفه…، وأعطيته رقم هاتفي ليتصل بي عند تقديمها للقاضي، ثم قابلت الشرطي س رقم هاتفه….، والذي يعمل في السجن، ثم الشرطي الذي يعمل في قسم الشاطئ ورقم هاتفه….، وقابلت الأشخاص (ذكر حوالي عشرة أشخاص مع ارقام هواتفهم، وسط دهشتنا من قوة ذاكرته)، ثم عندما خرجت أُخبرت بذلك وكنت أثناءها في منزلي في إدلب، فعدت إلى اللاذقية، في اليوم التالي، وبحثت عنها حتى وجدتها في دار الدعارة، فطلبت منها العودة وقدمت لها التطمينات بأن لا أحد سيعرف ما كانت تعمله، وأنني لن أفعل لها شيء، ولأنها كانت في تلك الدار تتعرض للضرب، وتعيش ألوانا من العذاب والقهر، وافقت على العودة معي، فقمت باصطحابها لمنزل عمي الكائن إلى جوار قسمكم، حيث بتنا الليلة السابقة في منزله، كانت تشعر بالخوف الشديد، وكانت متيقنة من مصير الموت الذي ينتظرها في القرية.
عند الصباح انطلقنا إلى الكراجات، وبعد عدة أمتار من المنزل أفلتت يدي، وحاولت الهروب بعد أن عرفت نوايّ، وبعد أن قطعت مسافة، لحقت بها وأفرغت طلقات مسدسي في جسدها، حتى حضوركم وإلقاء القبض عليّ.
كنا مشدوهين من ظروف هذه القضية، وملابساتها وشخوصها، وحتى طريقة سرد القاتل الذي كان يتحدث بنبرة تحمل جبالاً من الحزن، والقهر، والعاطفة، والذكاء، والذاكرة، والأفكار المتسلسلة، واللغة وحتى نبرة الصوت وتعبيرات الجسد
سأله القاضي:
أنت كنت وكنت، ثم دمرت حياتك ومستقبلك، وارتكبت جرماً، لا ندري ما هي العقوبة النهائية له، ولربما ستفقد حياتك أنت أيضاً، هل تشعر الآن بالندم لهذه الفعلة؟!!
فجأة اشتعلت عينا الشاب، وتحول لشخص آخر فأجاب:
طبعا…لست نادماً بالعكس أنا فخور، وفخور جداً بقتلها!!
سأله القاضي: ولماذا؟!!
أجاب: أنا ضحيت بنفسي لأنقذ حياة اخوتي، فأخي واختي سيعيشان الآن، ولن تكون تهمة شقيقتهما تلاحقهما، أو تقف عائقاً في زواجهما.
لكن القاضي كان متعاطفا، وقال لكاتبه:
اكتب…أنه نادم ولم يكن يدري مايفعل، وأقدم على قتل شقيقته دون وعيّ، إلا أن الشاب رفض ذلك وقال له:
لا لست نادماً، وأنا قتلتها بوعيّ كامل منيّ، وإرادة كاملة.
إلا أنّ القاضي لم يلتفت له، وتم تكليفي بمتابعة التحقيق، وأغلق الكاتب دفتره، وغادرا مباشرة.
أعدت التحقيق معه مع بعض التفاصيل الصغيرة، وكنت أناقشه في أمور كثيرة، وهالني مستوى الثقافة التي يتمتع بها لشاب في سن صغير، كما أزعجني تبريره للقتل الذي ظل مصراً عليه في كل نقاشنا، رافضاً فكرة الانتقال من القرية مثلا لمكان آخر، ربما بحكم السن وقلة الخبرة في الحياة، وربما حكم التربية والعادات والتقاليد التي كانت تقيد عقله في بيئته المتزمتة المغلقة.
تم تقديمه للقضاء، وعلمت أنه أُطلق سراحه بعد خمس سنوات، ولكن تحت المحاكمة، إلا أن ظروف الثورة والبلد جعلته يختفي في محافظته، ولا أعرف مصيره.
فيا ترى من هو المجرم في هذه القصة؟!!
*تعقيب:
هذه القصة التي تنتهي بسؤال ( من هو المجرم )، ويبرز فيها تعاطف كبير وتبرير ما للجاني، على اعتباره “ضحية” أيضاً، تكمن كل حيثياتها في المجتمع والبيئة المحيطة، ولاشك أنه المجرم هو المجتمع بأكمله، والجاني مجرد أداة وضحية لهذا المجتمع وعاداته وتقاليده، وكل شيء بدأ مع الضحية المقتولة من زواجها المُبكر، وإنجابها في سن مبكر جداً، ولليوم يستصعّب الناس في مجتمعاتنا إدراج زواج القاصرات ضمن قضايا “الاعتداء الجنسي”، فهذه الضحية تم الاعتداء عليها مرات ومرات عدة كانت قد بدأت من زواجها وهي قاصر، وإنجابها ومن ثم حرمانها من أطفالها، ومن ثم تعرضها لكل أشكال التعنيف والاعتداء اللفظي بسبب طلاقها وسعيها لاحتضان أطفالها، والشرف الذي يحرص عليه هذا المجتمع، هو على المستوى الإنساني لا يمت لمفاهيم الشرف بصلة، ولن يغير الله قوماً ما لم يغيروا ما في أنفسهم، لذلك يستمر حدوث هذه الجرائم وتستمر المآسي، ولا بدّ من تغيير وعي المجتمع بقضية زواج القاصرات وسن قوانين صارمة تضبط هذا الأمر.
*محمد الفضلي.