لا تفارق ذهني صورة النساء اللواتي كنّ يمتهن بيع المواد المهربة، أمام باب كراجات باب مصلى في دمشق؛ لا سيما السجائر.
كان لباسهن ولهجتهن تشير بوضوح إلى أنهن ينتمين جميعاً إلى منطقة واحدة قادمات منها. وبالتمحيص قليلاً يمكنك فهم أن مهنتهن التي امتهنّها، ما كنّ ليصبرن على ظروف العمل فيها، لولا أن التراجع عنها يعني مواجهة الجوع.
في تلك الأيام، قبل ما يقارب ثلاثين عاماً، كانت عمليات التهريب والتجارة بالمواد المهربة تدار من قبل ضباط الأمن والشرطة والجمارك؛ أو تحت نظرهم؛ كما هي الحال دائماً في الدول التي ينتشر فيها الفساد، وبالتالي فثمة اتفاق غير معلن بين المهرب والحراس، حراس الاقتصاد، أو من هم افتراضاً يجب أن يكونوا كذلك، وبطبيعة الحال، وكما هو معروف في الحالات المشابهة، فإن المرأة التي تدخل عالم التهريب هي الحلقة الأضعف، وستضطر للسكوت على كل الممارسات القذرة بحقها من تحرش وتنمر واستضعاف، لكونها في نظر الجميع؛ رجال الأمن والمهربين بل والمجتمع برمته؛ مستباحة ضعيفة لا سند لها، بدليل انخراطها في هكذا نوع من الأعمال، وبالطبع أن أحداً لم يفكر، ولا يعنيه أن يفكر في الظروف التي دفعتها لتحمل كل تلك المهانة في كسب لقمة عيشها.
المؤلم في الأمر، هو استغلال أطفال أولئك النسوة في العمل أيضاً، إذ بعد المراقبة لمدة لا تزيد عن نصف ساعة، يعلم المراقب بوضوح أن لكل مهرّبة طفلاً لا يتجاوز الثماني سنوات يقوم بمساعدتها في العمل، بحيث يأتيها بعلب السجائر من مخبئها المعروف بالنسبة لرجال الشرطة! ورغم علم رجال الشرطة بالمخابئ، إلا أن اعتمادها كان عملاً احتياطياً يقوم به المشتغلون بالتهريب، تحسباً لأي تغير محتمل في الأمور، ما يجبر رجال الشرطة والأمن على ملاحقة المهربين، وإن كانوا قبل وقت قصير يتقاضون منهم الأتاوات.
على أي حال، فالحادثة الأخطر التي كنت شاهداً عليها آنذاك بمحض الصدفة، كانت عندما تقدم شرطي من إحدى بائعات السجائر قربي، واقتنص علبة سجائر من يدها، متجاهلاً رجاءاتها، ثم ليطلب منها بفجاجة أن ترافقه، ما رفع عقيرتها بالغضب والصراخ، وسط ضحكات الحاضرين من رجال شرطة، وسائقين، ومارة في الشارع، وعندما يئس منها، أمسك الطفل الذي يساعدها من يده ومشى مبتعداً، وعندما لحقت به السيدة محاولة الأم استرداد الطفل، هددها زميله بالذهاب إلى مخبأ السجائر ومصادرته.
كل ذلك حصل أمام عيون الجميع، حتى أن أحد الموجودين والذي أظنه سائقاً قال لها ساخراً لا تقلقي عليه، سـ”يشطفه”، ويعيده إليك، خليه يشيل عنك كتف”!
يومذاك كنت في طفولتي المتأخرة، وقد أصابني هلع شديد، وفقدان للشعور بالأمان استمر ردحاً من الزمن، تسبب لي بفوبيا حقيقية من أي رجل شرطة ألتقيه في أي مكان.
ومادام هذا حالي ولم أكن أكثر من شاهد صدفة، فما هو يا ترى حال ذلك الطفل، وماالذي يمكن أن يكون قد صار عليه في هذه الأيام؟؟
*زيدون الجندي