قصة مأساوية أخرى، مما يُسمى في مجتمعنا ب”سفاح القربى”، وردت إلى بريد مؤسسة “نداء”، من ملفات أحد مخافر الشرطة في مدينة اللاذقية، يرويها لنا ضابط سوري عمل كمحقق في هذه القضية، والقضايا الشبيهة، ويقول:
في إحدى المرات، قامت دورية من فرع السجن المركزي في مدينة حماة، بتسليمنا موقوفة، كان قد أخلي سبيلها لديهم، لوجود طلب لدينا بجرم السرقة، وبعد أن تم استلامها، كُلّفت بالتحقيق معها من قبل رئيس القسم.
الأصل في التحقيق أنه ليس عبثياً، أو عشوائياً كما يشاع، بل هو علم قائم بحد ذاته، له شروطه ومتطلباته ونتائجه، ولكن الفساد الضارب في بلادنا نظاماً ومؤسسات ومجتمعا، جعل كثير من الحقوق تضيع، وكثير من الحقيقة يتم التلاعب بها، لكن هذا لا ينفي أن هناك بعض ومضات في الصفحات السوداء، ولا ينفي أن التحقيق الجنائي له أصوله، فعند مباشرة التحقيق لابدّ لك كمحقق من الاطلاع على ضبط الشكوى المطلوب بموجبه الموقوف، ثم طلب السوابق الجرمية له، حتى تعلم القضية وخلفية الموقوف، ثم تجمع المعلومات حول القضية والموقوف وحتى المشتكي، لتقارنها بما لديك في الضبط وبين الواقع، وأثناء ذلك تقوم بالدردشة الأولية معه، وترى ما لديه وتكوّن صورة أولية عنه، وبعدها يبدأ التحقيق الفعلي.
قمت بطلب ضبط السرقة الذي كان لدي، وهو بناء على شكوى من صاحب بقالة، بإقدام فتاة (الموقوفة التي سلمتنا إياها دورية سجن حماة،)، على مغافلة صاحب البقالة، وسرقة مبلغ مالي من درج مكتبه، ثم هروبها واختفائها.
سمر فتاة تبلغ الرابعة والعشرين من عمرها، ذات طول فارع، وجسم متناسق، وعينين خضراوتين، وشعر أشقر يحوي أربطة متعددة، وتملك جمالاً أخّاذاً، تجعل كل ناظر إليها يفتن في جمالها، إلا أنني كمحقق كان يجب علّيّ أن أنسى أني شاب في مقتبل العمر، وأنظر إليها كأي قضية من القضايا.
أدخلها المساعد إلي لبدء التحقيق، وبدأ التحقيق الأولي معها…
كان السؤال البديهي الأول بعد بيانات الشخصية:
فيم كنتِ موقوفة في حماة؟
أجابت: بجرم دعارة.
جواب جعلني أُسقط صورتها الوردية، وشكلها الرائع، وحلّ محله القرف، فأنا أقرف من تلك المهنة، ومن يعمل بها، وكانت تلك النظرة بحكم ما مرّ عليّ من تجارب في التحقيق مع من يمارسون تلك الرذيلة، المنصوص عليها عقوبات في كل الشرائع والقوانين، فما هي الطريقة الواجب اتباعها مع من أسقط كل مقدس حتى لجسده الذي جعله سلعة تباع وتشرى، وكانت تلك نظرة غير مهنية، أحتفظ فيها داخل نفسي، ومع هذا قمت بضبط أعصابي، ونحيت شعوري، لأتابع حول القضية التي تهمني، فسألتها عن موضوع السرقة، وفي غير عادة الموقوفين لم تنكر ولم تبكِ، وكانت تتحدث بلا مبالاة، وكأنه أمر بسيط لا يعنيها، وغير خائفة من مصير العودة للسجن، الذي خرجت منه.
انبرى المساعد لدي يسألها سؤالاً، لطالما أثير قبل هذا كثيراً لدي، قال لها:
أريد أن أسألك سؤالا لطالما علق في بالي، وهو:
هل تستمتعين بممارسة الجنس وأنتِ تفعلينه مع أكثر من رجل، لربما في اليوم الواحد؟!!
حقيقة كان لدي فضول المساعد، وانتظرت أن أسمع الجواب مثله، لكنها لم أطرقت في الأرض ولم تجب.
عندها دخل إلى مكتبي عنصر الشرطة، يحمل بيده السوابق الجرمية والحوادث.
كانت الصحيفة مملوءة بسوابق الدعارة، تزيد عن العشر مرات، وكانت هناك سابقة قديمة هي التي استرعت انتباهي، وجعلني أقف مشدوها، وأُسقط مافي يدي، وهي موضوع هذا الموقع.
وهي جريمتي سفاح القربى، وإجهاض الجنين!!
وعندها انقلب التحقيق من جريمة السرقة، والنظرة لها كمومس تبيع جسدها، لحالة إنسانية معقّدة، لها قصة مأساوية لايحتملها عقل آدمي، وكان هذا خروجاً عن موضوع التحقيق، الذي يجب أن يعنى بالجريمة ومسبباتها بشكل أساسي، ثم النظر للموقوف ومبرّراته.
قمت بالاتصال بزميل لي في الناحية التي وقعت فيها الحادثة، وأخبرني عنها بشكل مختصر، وكما ستخبرني عنها “سمر” فيما بعد بالتفصيل.
طلبت منها الجلوس، وبدأت بكسب ثقتها، وطلبت منها أن تخبرني عن قصة حياتها وتلك السابقة بالذات، وبعد شد وجذب وافقت على أن تخبرني بالقصة، والتي كانت كالتالي:
سمر من عائلة فقيرة، من منطقة الغاب في ريف حماة ، هي الأنثى الوحيدة في أسرة تتكون من: أربعة ذكور، ثلاثة يكبرانها ب8 سنوات، و6 سنوات، و أربع سنوات، و أخ يصغرها بسنتين.
قبل أعوام من هذا الوقت، وعندما كانت سمر تبلغ من العمر ستة عشر عاماً، كانت تضج أنوثة، وتشع جمالاً أسطورياً، وتذهب للمدرسة تبني أحلاما وردية كأي طالب يحلم بمهنة علمية، وكأي أنثى في سنها، كان لها حلم في تكوين أسرة، تربي أولاداً، لا يشبهوا واقعاً سيئاً تعيشه.
كانت سمر تنظر في الماضي، وتبتسم ابتسامة ساخرة، تخنق دمعة في عينها، ثم تطلق تنهيدةً مملوءة بكل وجع الأرض، وتتابع:
لكن قدري وضعني في بيت يرتكب فيه الجميع آثاما مختلفة، فالأب يتعاطى الخمرة، ولايكاد يصحو منها طيلة اليوم، والأخوة يمتهنون السرقة منذ نعومة أظفارهم، كما يعملون في مهنة لم الخرداوات، والتي كانت تؤدي بالنتيجة للسرقة بشكل أوآخر، كما كانوا يتعاطون المخدرات، كعادة كثير من أبناء الأحياء الفقيرة التي كانت في منطقة عملي.
الأم أصيبت بمرض السرطان، وتطور إلى أن صارت طريحة الفراش، ولم يطل بها الأمر إلى أن توفاها الله بعد مدة ليست بالطويلة.
بعد وفاة الأم بأشهر…أُجبرتُ من قبل إخوتي وبحكم الواقع على ترك المدرسة، للعمل في المنزل كخادمة للعائلة، في مجتمع ذكوري عنيف، ألبي حاجة الجميع وأقوم على خدمتهم بما أؤتيت من قوة، ولا أنال منهم جزاءاً ولا شكورا، بل العكس، فلطالما تعرضت للضرب المبرح، من أني تأخرت على أحدهم في تسخين طعامه، أو جلب حذائه، وانتهت بي أحلامي الطفولية، إلى حلم واحد، وهو الزواج من أي شخص يخرجني من هذا الجحيم.
في إحدى الليالي من ليالي شتاء منطقة الغاب في ريف مدينة حماه، وكانت السماء تمطر مطراً غزيراً، حيث الجميع يلتجىء إلى فراشه، يتوسده للبحث عن الدفء، ليغلبه النعاس فيغيب في عالم الأحلام…عاد شقيقاي الكبيران من سهرتهما عند أحد أصدقائهما، وهما مغيبان خلف أسوار الكيف الكاذب الذي تسببه جرعة من المخدرات، التي كانا قد تعاطيهما، عادا وهما أكثر حدة وعينانهما مملوءة بالدم.
دخلا عليّ الغرفة وأنا في فراشي، أحسست بأنّ دمي يغلي، والخوف بلغ مني أوجّه، اقتربا مني وأنا أشد عليّ لحافي، شعرت أن شيئاً ما سيحدث لي، ولم يخطر على بالي أن ذلك اليوم، سيكون يوماً فارقاً في حياتي، لم أعرف أني سأتغير للأبد…
*لقد امتلأت عيني سمر بالدموع، وتغيرت صورتها عن الصورة التي قدمتها لنفسها في بداية دخولها لمكتبي، لم أعرف كيف تكون المواساة، أو كيف أشدُّ من عضدها وأعيدها لنفسها، فطلبت لها طعاماً وشاياً، وألقيت بعض العبارات لتهدأتها، وبعد أن انتهت من الطعام، قلت لها: آسف على إثارة الماضي، لم أكن أعلم حجم الألم، والقهر.
قالت ساخرة: عادي…لقد أصبح الموضوع عادياً جداً، أعيش كما ترى شقفة عاهرة، أتنقل من حضن لحضن، ماعادت فارقة، شو أكثر من عاهرة سيكون؟!!
قلت: هل تكملي القصة أم ستخبريني عن موضوع السرقة؟!!
قالت: بعد أن دخلا الغرفة…قاما بضربي بكل قوتهما، ثم قاما باغتصابي ولعدة مرات، وكنت كلما أصرخ يزداد الضرب علي، لم ينفع معهما رجائي ودموعي وتوسلي، ومناداتي بأسمائهما، انتهى الأول وقضا شهوته، فنزل الثاني وفعل فعله.
ثم تركاني والدماء تنزف مني في كل جسمي، ذهبت إلى والدي السكيّر أوقظه وأخبره، لكنه كان غائباً في سكره، ينظر إلي ولا يكاد يعرفني، فشتمته وشتمت أولاده، والحياة ولكنه عاد للنوم.
تركته ودخلت وأنا أبكي للحمام، أصب علي ماء لم أهتم لبرودته وبرودة الجو، كنت أريد أن أزيل عني القذارة، والتي لم تفارقني حتى اليوم.
ثم اتجهت باتجاه المساعد، وقالت:
أقسم بالله العظيم…أني بعد كل ممارسة مع رجل أستحم لايقل عن ٣ ساعات، أريد أشعر بكل قذارة الدنيا في جسدي، تسألني أتستمتعين بممارسة الجنس؟!!
أنا أقسم بالله العظيم أكره كل رائحة رجل ..أنظر إليه كحيوان غريزي، لاهم له إلا هذ(وأشارت إلى عضوها الجنسي).
*حقيقة وقعت كلماتها في خلدي وقعاً قاهراً، وحوقلت واستغفرت، وأحسست بأني متهم ككل الرجال، فانبريت أدافع:
لا يجوز هذا الكلام، ليس كل الرجال رجال، ولا تعممي الموضوع على الكل، على كل ليس حديثنا، أكملي لو سمحتِ.
نظرت إليّ وتابعت: في اليوم التالي، وبعد أن استيقظت…هجمت عليهما في فراشهما..أضربهما بكل مالدي من قوة وأشتمهما:
يا حيوانات ياكلاب….
عند استيقاظهما…تفاجأ بي وبفعلي، وأبعداني عنهما، وهما يضرباني ويسألان: ما الذي حدث لك؟
سألتهما عن فعلتهما بي البارحة، فانصدما، ثم تركاني وخرجا من المنزل، أتبعهما بشتائمي.
لم أستطع أن أخبر أحد، عن ذلك العار الذي لحق بي، لم أعرف من سأخبر، ومن سيستمع لي، وكيف أخبر، فكتمت أمري، وبدأت أعيش مأساتي وحدي، تحفر دموعي وجنتي خدي.
بعد عدة أيام عادا إلى المنزل مرة أخرى، وهما مكسوران أمامي، عدة أيام أخرى، وعادت حياتهما إلى سابق عهدها، وبعدها دخلا غرفتي مرة أخرى في المساء…واغتصباني مرة أخرى، مع مقاومة مني، وضرب منهما، وتكرر اعتداؤهما عدة مرات، وخلال عدة أشهر، وانقطع دم الطمث لدي، لم أعرف أني حامل بالشهر الثاني، إلا بعد زيارة الطبيب، الذي أخبرني بذلك فكانت الطامة الكبرى، فماذا أفعل ولمن أقول؟!…
في أحد الليالي…دخلا كعادتهما، فاخبرتهما ماقال لي الطبيب وأنا أبكي، فما كان منهما إلا أن انقضا على بطني يشبعانه ضرباً عنيفاً، وهما يشتماني، ويضربا ويضربا حتى نزفت، وخرج مني مايشبه قطعة اللحم، وفقدت وعيّ.
لم يعرفا مايفعلان، فأسعفاني للمشفى، وتركاني فيها…
بعد أن قدمت لي العلاجات اللازمة، واستفقت …حضرت الشرطة وقاموا بالتحقيق، واعتقل إخوتي، واعترفا، وهما إلى الآن في السجن.
أما أنا، فلقد وجدت نفسي وحيدة في عالم متوحش يأكلني بنظراته، ويقهرني بكلماته التي كنت أسمعها بين الفينة والأخرى، حتى ماعدت أن أطيق الحياة، فقررت الهروب من الجحيم، ولكن إلى أين؟!
لم أعرف أين أتجه، فصعدت حافلة تلو حافة، حتى وجدت نفسي في اللاذقية، وتلقفني سائق تاكسي، أخذني إلى شاليه في الشاطئ الأزرق، ومارس معي الجنس وأنقدني بعض المال، ثم تركني في الشارع، وعندما وجدت نفسي تائهة، وحيدة في الشاطئ الأزرق، حضر إلي أحد الأشخاص، الذي تبين أنه يعمل قواداً، وبدأ بتشغيلي بالدعارة، ومنه تم بيعي لقواد آخر، وهكذا دخلت مهنة حقيرة، وصرت فيها كما ترى.
أما عن موضوع السرقة….فلقد حاولت الهروب من تلك العصابات أكثر من مرة، ولم يتركوا بيدي مالا إلا القليل، في محاولة الهروب الأخيرة …دخلت سوبر ماركت جانب الكراج، وسرقت من الدرج المال، ثم ركبت سيارة أجرة وأوصلني لحماة، ولما لم يكفِ المال…قام بتسليمي لمخفر الشرطة، واعترفت بسرقة المال للهروب، وقاموا بتسليمي للسجن الذي سلمني إليكم بحكم الاختصاص المكاني.
هذه كل قصتي…
*حقيقة كانت قصة سمر تشبه قصصاً أخرى حققت فيها، أو سمعتها فيما بعد، وأيقظت فيّ نظرة أخرى لموضوع الجريمة ومرتكبيها.
قمت بواجبي، واستدعيت صاحب البقالة الذي تعرّف عليها، وأخبرته عن الجزء الأخير من قصة سمر، وأنها فعلت مافعلت مضطرة للهروب من جحيمها، وأبدى الرجل تعاطف معها، وأسقط حقه الشخصي، وبعدها تم تقديمها للقضاء الذي أوقفها للحق العام، وبعدها أضحت رقماً في بلد لاقيمة فيه لشيء.
حقيقة، كنا كلنا أصفارا بلغة الدولة والنظام والسياسة، وكان المجتمع يحيطنا بأغلفة ناصعة البياض، ويقدمنا كشعب مميز جميل يحوي فضائل وأخلاق ودين، دون أن ندري أن السوس كان ينخرنا من الداخل.
*محمد الفضلي – سوريا.
**فقدان الحماية والرعاية، والتعرض للأذية من أقرب الناس والذين من المفترض أنهم حضن الأمان ومصدر الحماية للطفل ذكر أو أنثى، يُحدث إنقلاباً جذرياً في شخصيته، وخاصة الأنثى القاصر في مجتمع مثقّل بالأحكام المُسبقة وثقافة العار والعيب، مثل هذه القصص تدق ناقوس الخطر، وتنبه إلى ضرورة توفر مؤسسات رعاية خاصة، تحتضن هؤلاء الذين يتعرضون لكل هذا العُسف من ذويهم ومحيطهم، وتعيد لهم الأمان المفقود، ووتساعدهم على المضي في حياتهم بشكل أفضل دون مهانة ومذلة، وهذه مسؤولية الدولة والمجتمع، ومسؤليتنا جميعاً كأفراد أيضاً، لنتضامن ونقدم كل ما بإمكاننا تقديمه لمنع مثل هذه المآسي الإنسانية.