*من ملفات الشرطة في مدينة اللاذقية – سوريا.
الساعة :11 ليلاً من صيف 2007م.
المكان : قسم شرطة الرمل الجنوبي اللاذقية.
أثناء تواجدي في مكتبي، دخل المساعد يرافقه شابٌ في مقتبل العمر، عمره حوالي (16) عاماً، وادّعى أنه قتل شقيقته، وبرد فعل بارد…قلت له:
قتلتها يعني ضربتها ضرباً؟؟
قال وبدون أن يرف له جفن:
ﻻ قتلتها على الخالص!
قولٌ جعلني أقفز من مكاني، وأستنفر كل حواسي، وعلى الفور تم تشكيل دورية، ومرافقته لمنزله، وتم الاتصال بالقاضي المناوب والطبيب الشرعي، والتوجه إلى منزل الضحية.
كان الباب مفتوحا، فدخلنا.
يتألف المنزل من ثلاث غرف، ومطبخ وفسحة سماوية، تدل الجدران والأثاث على حالة الأسرة المتوسط الحال، وأثناء تفحصي المنزل، كان أحد الأشخاص -تبين فيما بعد أنه شقيق الضحية – يقرأ القرآن والدموع تتساقط من عينيه، إلى جانبه شقيقيه، وكانت الضحية ممددةً على أرض الفسحة دون حراك، وقد تندلى إلى جانبها سلك كهربائي كالذي يكون للأدوات الكهربائية (مروحة عامودية).
هالني المشهد ، وشكّل لي صدمة، كيف يقرأ القرآن ويجلس بينما أخته جثةً هامدةً أمامه؟!.
تم التحفظ على الجميع، وتأمين مسرح الجريمة، وفتح ضبط بالحادثة.
وبعد وصول القاضي والطبيب الشرعي، بدأت الإجراءات، حيث أكد الطبيب وفاتها مصعوقةً بتيارٍ كهربائي، ووجود حروقٍ على ظهرها ويديها، نتيجة التيار، وحدّد سبب وساعة الوفاة، ونُقطتي دخول وخروج التيار الكهربائي إلى جسدها.
تم التحقيق معهم جميعاً تحقيقاً أولياً من قبل القاضي، أصرّ فيه الشاب الصغير على أنه هو الذي أقْدَمَ وحده على قتل شقيقته، باستخدام كبل كهربائي، وصعقها بالكهرباء.
وتمّ تكليف القسم بمتابعة التحقيق، بعد إيداع الجثة براد المشفى الوطني حتى حضور من يستلمها، والتحفظ على الأشقاء الثلاثة، والتحقيق معهم.
عندما انتهينا من تلك الإجراءات… تمّ سَوق جميع الأشقاء إلى القِسم، ووضعِهم ضمن السجن قيد التحقيق، حتى اليوم التالي، كون الوقت أصبح متأخراً جداً.
كانت الساعة الرابعة فجراً تقريباً، أغلقت باب مكتبي، والنوافذ كالعادة، ﻷُصلي، وفي أثناء الصلاة، -أقسم بالله- سمعت صوتاً يقول لي : ” ( عمار )”!!… جَعَل جسمي يرتعش، وبعد أن أنهيت الصلاة، قمت بمناداة حارس النظارة وقلت له: هل لدينا موقوفٌ اسمه عمار؟ اذهب وابحث؟!
كنت قد نسيت أسماء كل من أحضرتهم في خضم الأحداث، قال لي:
نعم يا سيدي، هناك “عمار” في آخر دفعة جلبتها إلى القِسم.
قلت له : أحضره…
تأخّر حوالي خمس دقائق، فقلت له: لِمَ تأخرت؟
قال لي الحارس: كان الشاب “يصلي ويدعي”.
ثم دخل شاب في الخامسة والعشرين من عمره، لم أشاهد إﻻ شاب نوراني بكل ما للكلمة من معنى !
طلبت من الحارس المغادرة، وأجلست الشاب، وسألته :
بم كنت تدعو؟؟
قال: دعوت “اللهم ﻻ أسألك رد القضاء، لكن أسألك اللطف فيه”.
قلت له :تمام، الله لطف بك، حدثني عن قصتك.
قال لي بلهجة بسيطة : ياسيدي أنا من عائلة ملتزمة، والأصل من قرية ملتزمة من قرى جبل الزاوية في إدلب، والكل فيها يعرف الكل، وهي مشهورة بعاداتها وتقاليدها القاسية والمتزمتة، ولقد تركها والدي منذ سنوات للبحث عن حياة أفضل في اللاذقية، فسكنّا في حي شعبي، يحوي من جميع الأطياف والمناطق، ومع هذا كنا كعائلة نتردد على القرية بشكل شهري تقريباً.
بيئة اللاذقية بيئة لايضبطها ضوابط أخلاق القرية نفسها، وهي إلى حد ما منفتحة، وذلك بسبب اختلاط الناس والبيئات.
كنت فيما مضى شاباً تائهاً، إلا أنّ الله هداني، ولاأدري كيف، لكنني صرت أصلي، وأصبح الجميع يحبني.
نقطن وأسرتي في منزل بسيط، أبي موظف، وله من الأخلاق العالية ماجعل الكل في الحي يحترمه ويوقرّه، وهو جديّ في أغلب حالاته، وأمي امرأة ريفية بسيطة، ودودة، ولطيفة ولا تخرج عن قول أبي ولا حتى بحرف، هي تطيعه وتحبه، ولم نرَ يوما أنهما اختلفا من أجل شيء.
ولي أخوان أحدهما: طالب يدرس في المدرسة، والآخر طالب جامعي يدرس في كلية التربية وهو جديّ كوالدي.
ولي أخت “القتيلة”، الله يرحمها، وهنا شهق أنفاسه، وذرف دموعاً حاول احتباسها منذ بدء حوارنا، ثم استأنف حديثه:
آسف يا سيدي…لي أخت وحيدة رحمها الله، وهي الثالثة في الترتيب، ويأتي بعدها أخي الأصغر.
الكل كان يدللها، ويلبي احتياجاتها، كونها كانت الأنثى الصغيرة، والوحيدة.
كانت شقيقتي تكبر يوماً فيوم، وتضج جمالاً وأنوثة.
وكانت تذهب للمدرسة، وتعود عند انتهاء الدوا، وعلى هذا المنوال…
في إحدى المرات…أخبر صديق لأخي بأنه شاهد أختي في أحد كافتريات اللاذقية، مع شاب جميل الطلة، لكنه مشهور بفسقه، وهو موقوف لعدة مرات بجرم السرقة.
فجن جنونه، ولم يكد يحمله عقله، فحضر إلى البيت مسرعاً، ودخل غرفة أختي وقام بضربها ضرباً عنيفاً، وهو يسألها ويتلفظ معها بألفاظ غير لائقة: يا كلبة يا حيوانة، شو ممشيك مع شاب، لا ومع مين مع فلان؟!! ويتابع ضربه
حتى دخلت والدتي وقامت بالتحجيز بينهما، ثم تركهما وخرج يبحث عن الشاب، فلقيته في الطريق وهو متجه لبيت ذاك الشاب، فقص عليّ القصة، إلا أنني طلبت منه العودة إلى المنزل، وعندما وصلنا شاهدت أختي تبكي، ووالدتي لا يكاد يعرف لها حال من الخوف والغضب.
عند عودة والدي مساءً…قصّت عليه والدتي القصة، فقام بضربها أيضاً، وتعنيفها، وأقسم ألا تذهب للمدرسة.
استمر الحال على هذه الحال لشهر تقريباً، حتى عادت الحياة لطبيعتها، حتى تدخلت والدتي، واعتذرت شقيقتي من والدي، ووعدته بأن تلتزم في المدرسة، وألا تخرج عن نطاق التربية وألا تحادث أي شاب.
مضى شهر آخر، وأخي وأنا نراقب أختي وسلوكها، وكانت حقيقة ملتزمة بما وعدت.
حتى جاء يوم وفي غفلة عنا…التقت مع الشاب، وهربت معه، نام معها، وجامعها، ثم تنقلا من مكان لمكان، ووالدي قدم شكوى لدى الشرطة بتغيبها، وأنه لايعلم مصيرهما.
هي وبحكم سنها، وكمراهقة في السابعة عشرة من عمرها…كانت تعشقه حد الجنون، وهو أوهمها بحبه لها، إلا أنه مع تتالي الأيام..تبين على حقيقته كشاب فاسق، فطلب منها أن تنام مع أصدقائه، إلا أنها رفضت، فقام بضربها، لكنهما بقيا سوية، فبقيت على حبه، وبقي كما هو شاب ضائع، فاسق، يرتكب كل الموبقات.
في أحد المرات…ألقى قسم جبلة القبض عليهما، أثناء تواجدهما في ساعة متأخرة في مكان بعيد عن أعين الناس، وهو يداعبها ويفعلا أفعالاً تخالف الذوق العام، ولدى سؤالهما عن سبب تواجدهما سوية، أخبرا القصة كاملة، وتم التأكّد من أنهما يعيشا سوية كزوج وزوجة.
تم تقديهما للقضاء، وكانت قد بلغت الثامنة عشرة حديثاً، فأطلق القاضي سراحهما بعدما رشاه الشاب، ووجد لهما فتوى، فزوجهما زواجاً شكلياً، وما إن خرجا من المحكمة، حتى تركها وهرب، فاتصلت بي من عند أحد الأشخاص الذي وجدها في الحدائق العامة، والطريق بعد أن كانت مشردة فيها لأيام، وحين التقيتها…كانت خائفةً مذعورة ، فأتيت بها للمنزل، ورغم اعتراض أبي وأخي، وبقيت في المنزل على مضض منهما، وتعهدتها، وصرت أعلمها الدين والأخلاق، وأوعيها، وكانت تستجيب لي، وقلنا: الحمد لله.
كانت الناس في منطقتنا، وفي قريتنا يتداولون قصة شقيقتي، واهتزت صورة عائلتي، وخيّم الحزن علينا، وصار وجه أبي وأمي مكفهراً، ولاحظت انكسار أبي، فتحول لرجل يعلوه السواد، ونظرات القهر تملىء عينيه، والتزم صمتاً مكبوتاً بقهر الدنيا، ولم يعد يتكلم مع أحد منّا، وهكذا…انطفأت شعلة بيتنا، فلم يعد يزرنا أحد، وصارت أعين الناس ترمقنا، كلّما خرجنا، أو دخلنا المنزل.
حتى التعامل معهم صار ضرباً من الألم، فلقد أصبحوا يتعاملون معنا بقرف، وينظرون لنا: كأخوة العاهرة، وعائلة العاهرة.
لكنّ ذلك ما كان يشكّل هماً كبيراً لدي، كان همي الحفاظ على العائلة قدر الإمكان.
إلا أنّ شيئاً حدث ولم يكن في الحسبان وهو:
البارحة عصراً، وفي غفلة منّا، وأثناء تواجدنا في العمل والدراسة، خارج المنزل، وأثناء تواجد شقيقتي ووالدتي في المنزل وحيدتين…اتصل الشاب بها، على الهاتف الأرضي، وعاد للعب عليها بألفاظه، وصارت تريد الهرب لعنده، لكن منعتها والدتي، واتصلت بنا فحضرنا جميعاً.
قام والدي بالإمساك بها، يريد ضربها، لكنني وقفت في وجهه، ومنعته، وأخذتها وهدّأت من روعها، وجلست وإياها في غرفة واحدة، ثم فتحت القرآن أقرأ منه لها.
لكنها غافلتني محاوِلة الهرب، فأمسك بها أخي الصغير، نظر أبي والدموع في عينيه، كانت المرة الأولى التي نشاهده هكذا، ثم صرخ و قال: اقتلوها وأريحونا منها، وأخذ أمي وخرج خارج البيت، ونحن نرى نشج عينيه، ثم دخلت غرفتي وأغلقت عليّ الباب، وماهي إلا لحظات …حتى سمعت صراخ شقيقتي، وبعدها غاب الصوت، فعلمت أن شيئاً ما حدث، ولم تسعفني قدماي على الوقوف، فجلست في أريكتي حتى حضوركم، وشاهدتموني على تلك الحالة، ولا أدري ماحدث بعد ذلك.
نظر إلي ودموعه مغرورقة بالدموع، وأطلق تنهيدة بحجم الغرفة، وقال:
يالله…يا خيتي، ليش هيك ساويتي؟ !!ياريتني مت ولا شفتك ميتة.
يارب ليش ما خليتني أحميها؟!!
دخيلك يارب ليش كتبت علينا هيك؟!!
استغفرالله، الحمدلله ……
كانت الدموع قد بلغت مبلغها من عمار، وهو يروي القصة، ولم أستطع إلا أن أسعفه ببعض الكلمات التي يرددها العامة:
لاحول ولاقوة إلا بالله، طول بالك، وصل على النبي، يفرجها الله.
كان العقيد اللص (غياث) جاهزا ليستغل مواقف كهذه، ليبتزهم.
قلت له : أخي أنا اليوم معك ، بكرا ﻻ، فإذا حقق معك العقيد، وضغط عليك أو ضربك أو عذبك، فإياك أن تتراجع عن شي تؤمن به، وقل الحقيقة فقط، وﻻتخف إﻻ ممن خلقك.
كانت الكلمات تخرج مني بلا تفكير أو تكلف!
أنا بين نارين بين نار الحقيقة المجردة، وبين البحث عن العدالة الحقيقية.
لكن هؤلاء شباب في مقتبل أعمارهم لم يخترعوا تلك العادات ولا التقاليد، هم ضحايا كما شقيقتهم المقتولة، والمجتمع والدولة والقضاء… لن ولا يعالجون أي من هذه الحالات أو الضحايا، لا يعرفون سوى إنزال العقوبة، كلٌّ على طريقته.
طلبت من الحارس إعادته للنظَارة، وتلبية كافة متطلباته، وألا يمسّه أحدٌ بكلمة.
في الصباح انتهى دوامي، وتم أخذ أقوالهم من قبل العقيد، ونفى الأخوان، وعند الظهر، كان قد تم تقديمهم إلى القاضي بيُسر على غير عادة قسمنا.
علمت فيما بعد أن أحد التجار دفع للعقيد رشوة لتقديمهم، وعدم الإساءة إليهم.
بعد حوالي ثمانية أشهر من الحادثة، وأمام إحدى مقاهي صليبة في اللاذقية، وبعد أن ألقيت القبض برفقة دورية على أحد تجار المخدرات، وكنت متخفياً، وأرتدي لباساً مدنيا غير رسمي، وفجأةً…هجم علي أحد الأشخاص من بعيد، وقام باحتضاني بقوة، استغربت من الحادث فقلت له: خيراً أخي مابكَ؟!.
قال لي : أنا عمار .. وكنت قد نسيت شكله.
-من عمار؟؟
قال: عمار صاحب تلك الحادثة.
عندها تذكرت الحادثة كاملة، قلت:
الحمد لله على سلامتك، ما الذي حدث لك؟؟
قال: الحمد لله، الله يسر الأمر، وكان القاضي ابن حلال، وأطلق سراحنا، أوقفوا أخي الأصغر، وتوقف أنا ستة أشهر فقط.
سألته متلهفاً مستفهماً ليطمئن قلبي: أأنت شاركت في قتلتها؟!!
أجاب: لا والله ما شاركت في الجريمة.. لقد لطف الله بي.
كانت إلى جوارنا عربة لبيع الفراولة، التفت إلى البائع، فقال له: أعطني بخمسين ليرة، ثم رجاني أن آخذها، وبعد شد وجذب، أخذتها وهو فرح يبتسم بكل جوارحه.
*أين المشكلة؟
هل طرق معالجة الدولة للواقعة، وسجن الاثنين وتزويجهما بعضهما البعض شكلياً بعد رشوة هو السبب؟!!
أم هل طريقة معالجة الأهل لحالة البنت هي السبب؟!
أم هل هي سيطرة العادات والتقاليد، التي لا تناسب معتقدنا، وديننا، وأخلاقنا هي السبب؟!!
هل التعامل مع الفتاة ومسامحة الشاب، كونهم يؤطرون مفهوم الدفاع عن العرض في النساء دون الرجال هو السبب؟!!
هل الانفلات الكبير التي كانت تعيشه سورية، وانتشار الرزيلة هي السبب؟!!
أم بالقوانين التي ﻻ تعبّر عن روح وضمير الأمة والمجتمع ؟!! وﻻ تمثل عادات وﻻ تقاليد وﻻ أديان، وﻻ نظريات قانونية، وﻻ أفكار حضارية (وملايين الأمثلة هنا).
قانون فرنسا تم تطويره عدة مرات، ليتناسب وروح المجتمع الفرنسي، وقانوننا أصله فرنسي، هو هو من أيام الانتداب الفرنسي، ولم يطوره أحد، وللمفارقة لم يطبقه أحد إلا على الضعفاء.
*محمد الفضلي.
**العبرة في القصة هذه تعود بنا إلى أصل المشكلة، والخطأ في طريقة معالجتها، فالفتاة قاصر، وطفلة، والشاب تحت اسم “الحب” تلاعب بمشاعرها، وأراد حتى منحها لأصدقائه ليقضوا شهواتهم بجسدها، فالفتاة ضحية إنسان منحط ولا يعرف الأخلاق، وطريقة تعامل الأهل بالضرب والحبس، إضافة إلى استمرار سكنهم في المنطقة نفسها، وعدم التعرّض للشاب ولا حتى بشكوى للشرطة، كل سوء التصرف هذا أدّى إلى جريمة، راحت ضحيتها شابة، ووصمت العائلة ب”العار”، ورغم أن القاتل ضحية عادات وتقاليد، لكنه خرج ومضى بحياته، بينما أزهقت روح، والمتسبب الأول والأخير بهذه المأساة بقي طليقاً يواصل انحرافاته الأخلاقية مع أخريات، وتلك إحدى أصعب تبعات التمييز الجنسي في مجتمعاتنا.