*رحلة طويلة من الألم والمأساة، إلى النجاح والعطاء المتواصل.
في حوارها مع (بي بي سي عربي) قالت الكاتبة المسرحية الأمريكية “إيف إنسلر”، إنها في إحدى المرات تظاهرت بأنها ميّتة، كي تتخلص من والدها ويكف عن اغتصابها.
الكاتبة الشهيرة، التي عُرفت بجرأة نصوصها، ونشاطها في مناصرة لحقوق النساء، تعرضت خلال طفولتها لمأساة إنسانية، غيّرت حياتها بشكل جذري، ومن الغرابة ليس فقط تعرض الطفلة “إيف” للاعتداء الجنسي من قبل والدها، بل هو اكتشافها بمعرفة والدتها بهذا الاعتداء، ووقوفها صامتة إزاء ذلك، ودون أي مبادرة منها لحماية الطفلة.
في تسعينيات القرن العشرين، أبكت “إيف إنسلر” جمهورها تارة، وأضحكته تارة أخرى عندما عُرضت مسرحيتها (مونولوج المهبل)، في أكثر من 140 دولة عبر العالم، وهو عملٌ يحتفي بأجساد النساء، ويستعرض تجارب جنسية لعدد من النساء، منها ما تم بالإكراه، ومنها ما تم برضاهن.
أما مسرحيتها التي أطلقتها عام 2019م، وتحمل عنوان “اعتذار”، فإنها تُجسّد تجربة الكاتبة الشخصية مع الاعتداء الجنسي الذي تعرضت له من قبل طوالها طوال أكثر من عشر سنوات من طفولتها، والمسرحية الصادمة، مقتبسة من كتيب أشبه برسالة مُتخيّلة، كتبه والدها لها، ليعتذر فيها عن الطريقة التي ارتكب بها اعتداءاته الجنسية ضدها منذ طفولتها، وقد تحولت هذه الاعتداءات إلى عنف جسدي، بعد أن بلغت العاشرة من عمرها. ورفضت طلبات والدها.
إيف …الطفلة السعيدة التي تحولت حياتها إلى جحيم
في حوارها مع بي بي سي تقول “إيف”:
(أتذكر أنني كنت سعيدة عندما كنت في الخامسة من عمري، وكنت أعشق والدي، لكنني شعرتُ لاحقاً أن هناك خللاً ما، رغم أنني لم أفهم وقتها ما كان يحدث لجسدي، كانت هناك أمور تحدث لجسدي، لم تكن باختياري.
وأحببتُ والدي أكثر من أي شيء آخر في العالم، لذلك انتابتني مشاعر مختلطة، مشاعر كان هو المسؤول عنها، أحسستُ بالخطأ، وكل تلك الأشياء المعقدة المرعبة).
وتبين “إيف” أنه مع استمرار والدها في معاشرتها، دون أن تفهم ما يحصل، بدأت تُدرك بأنها لا ترغب أن يستمر ما يقوم به معها، وتوضح أن هيام والدها بها كان غريباً ومبالغاً، وغلب على كل شيء في العائلة، وبدأت الأمور تتغير، عندما قررت رفض طلباته والابتعاد عنه، عندما بلغت العاشرة من عمرها، وتظاهرت في إحدى الليالي بالموت، فلم يعتدِ عليها والدها تلك الليلة، لكن الأمور أخذت مجرى آخر، ليتحول الاعتداء إلى نمط آخر.
تقول “إيف”، إن والدها لم يكن يحبها فحسب، بل كان مهووساً بها، ولم يكن ذلك خافياً على أحد في العائلة، إلا أنها لم تعلم فيما لو كان إخوتها على دراية بطبيعة العلاقة بينهما أم لا، أما والدتها، فقد اعترفت بعد سنوات طويلة، بعلمها بالاعتداءات الجسدية التي كانت تتعرض لها في طفولتها، وقالت لها لاحقاً:
(كنت أعلم بما يجري، فقد كانت كل العلامات موجودة على جسدك، وكنت تعانين من الالتهابات دائماً، وتستيقظين ليلاً بسبب رؤية الكوابيس، بالإضافة لهذا كانت شخصيتك تتغير)، كما اعترفت والدتها لاحقاً، أن عمَّ الطفلة انتبه، ونبَّه زوجة أخيه من اهتمام وتصرفات أخيه المبالغة، بطريقة غير مألوفة.
وبهذا الصدد تقول”إيف”: ( لم أكن على علم بمدى معرفة والدتي في ذلك الوقت، بطبيعة العلاقة بيني وبين والدي، وفيما لو كانت قادرة على الاعتراف بشيء من هذا القبيل).
من الاعتداء الجنسي إلى العنف الجسدي
عندما رفضت “إيف” اعتداءات والدها الجنسية، توقّف عن ذلك فعلاً، ولكنّه بدأ بأذيتها بدنياً وضربها بعنف، وعن تلك المرحلة تقول:
(كنت كالمنفصلة عن نفسي، لكننا نعرف جميعاً صفات المعتدي جيداً، وكمية المشروبات التي يتناولها، وكيف يكون مزاجه، وماذا تعني خشونة أو نعومة، أتذكر والدي عندما كان يناديني من الطابق العلوي، كنت أستطيع تخمين مدى عنفه من نبرة صوته، كنت أركض إلى المرآة وأقول لنفسي بصوت عالٍ: “لن تكوني هنا. لن تشعري بشيء. لن يستطيع إيذاءك. لقد ذهب بعيدًا. لن تكون هنا. لن تشعري بشيء. لن تشعري بأي شيء يفعله بك”).
كثيراً ما كانت “إيف” تهرب من الواقع، وتنفصل عن ذاتها، عن طريق اللجوء إلى الكتابة، وتقول: (ابتكار شخصيات خيالية والعيش معها، فصلني عن الألم الذي شعرت به مراراً).
كيف أثّر ما تعرضت له إيف على حياتها لاحقاً؟
عندما كبرت الطفلة “إيف”، كان لما تعرضت له خلال طفولتها، أثراً كبيراً على نفسيتها، ومشاعرها تجاه جسدها وذاتها ، فقد كانت تشعر بانعدام قيمتها في علاقاتها مع الآخرين، وأما كيف فسّرت هذا الشعور وتعاملت معه، تقول:
(لا أعلم، إنه لأمر محزن للغاية، أن أقول بأنني لم أكن أشعر أبداً بأنني جديرة بكل من أحبني، كنتُ دائماً في المرتبة الثانية لدى والدي، كانت هناك أمي، ثم أنا، لم أتخيل قط أن يرغب أي رجل أو امرأة بأن يكون معي وحدي فقط، لأنني كنت دائماً مع الاثنين، كنت أتصور بأنني سأكون دائماً الشخص الثاني لدى أي شخص، سيكونون رجالاً متزوجين، وسأكون العشيقة ).
تقول “إيف” حول تصوراتها عن الأشخاص المعتدين:
(أعتقد أننا ننجذب إلى الأشخاص الذين كانوا يقومون بالاعتداءات، متوهمين أننا سنغيرهم، ونغير ماضينا، ولأن شخصياتهم مألوفة لدينا، لم أختر من أحبوني حقاً، لأنني كنت مرتابة من الماضي، فقد أحببت مرة عندما كنت طفلة، لكنني تعرضتُ للخيانة).
أنا آسفة ….. الضحية والشعور بالذنب
طُرح على “إيف” سؤال: (هل كنت تودين سماع كلمة آسف من والدك عندما كنت طفلة؟)، فترد بقولها:
(كنتُ أكتبُ إلى والدي رسائل اعتذار باستمرار، لأنه كان يجعلني أشعر بالذنب بشكل دائم، كان اسمي الثاني هو “أنا آسفة”، ولكن كان لدي اعتقاد آخر، وهو أنني كلما أكثّرت من الاعتذار، فسوف يقوم بفعل الشيء ذاته)، وأما عن ماذا كان سيحقق اعتذارها، تقول:
(أشياء كثيرة، كان ذلك سيحررني من الشعور بأنني الطرف السيء في علاقتنا).
السيد المُطلق الذي لا يعتذر!!
لماذا برأيك لم يعتذر والدك منك؟
في إجابتها على هذا السؤال، تقول “إيف”:
(لأن والدي تربى في وقت، لم يكن فيه الرجال يعتقدون أنهم مخطئون إطلاقاً. كان والدي الرئيس التنفيذي للشركة، الرئيس التنفيذي لعائلتي، لقد كان على حق دائماً، كانت فكرة عدم موافقتي لرأيه، جريمة يعاقب عليها القانون).
كما عبّرت عن شعورها عندما مات، بقولها:
(كان الأمر غريباً للغاية، يبدو أن والدي كان يعاني من مرض السرطان لفترة طويلة قبل وفاته، ولم يتصل بي، ولم تخبرني والدتي بأنه كان يحتضر، لم تكن لديه القدرة أو الرغبة بوداع أي شخص إطلاقاً.
أتذكر أنني ذهبتُ إلى خزانة ملابسه، وجلستُ أمامها، أتذكر السترة الصفراء التي كان يرتديها وأشمها، كنت كمن يقول، حسناً، هذه خاتمتنا، كنُتُ كالمخدرة تماماً، لم أشعر بشيء معين).
الإدراك المتأخّر والفهم اللاحق الذي يؤجّل الغضب
في جوابها على سؤال فيما إذا كانت غاضبة من والدها، تقول:
(أعتقد أن الأمر استغرق سنوات، حتى أدركتُ حجم ما فعله والدي بي، ربما يكون هذا صحيحاً بالنسبة لأي ناجٍ.
أتذكر عندما كنت في العشرينات من عمري، وبينما كنت مع أصدقاء الدراسة في الحانة، أخبرتهم طرفة مضحكة عن والدي، بأنه كان والدي يضربني بشدة، وصرخ في وجه والدتي لتذهب وتحضر سكيناً من المطبخ لطعني، لكنّها ولحسن حظي غادرت الغرفة ولم ترجع، عندها توقف أصدقائي عن الضحك، وسألوا باستغراب: ماذا قلتِ؟
وكانت هي المرة الأولى التي أتلقى فيها ردود فعل من العالم، حول جنون وقساوة ما عايشته، شعرت بالرعب فعلاً).
كتاب “اعتذار” على سبيل التحرر من الماضي والعلاج
حول كتابها “اعتذار” وهل ساعدها على العلاج، تقول “إيف”:
(ما حدث خلال هذا الكتابة، هو أنني تمكّنت من إعادة صياغة القصة، لقد انتقل أبي من هذا الوحش المتجانس إلى أحد المدافعين، تحول من ذلك النوع من المخلوقات المخيفة، إلى كائن ضعيف مكسور وهش. حررتُ نفسي بهذا المعنى بشكل لا يصدق، أستطيع القول إنني ربما أعرف أبي أكثر من معرفته لنفسه.)
تفسير سلوك الأب المعتدي وتبريره!
في توصيف “إيف” لأسباب سبب سلوك والدها حسب ما توصلت إليه، تقول:
(نشأ أبي في بيئة تتعامل معه على أنه الفتى الذهبي، صاحب الحق الإلهي مثل الملوك، لقد كان معبوداً، لكن ذلك لم يكن حباً، وهذه المثالية لا تسمح للإنسان بأن تظهر عليه سمات الضعف والانكسار.
أتخيل أن أبي سيُظهر تلك الصفات حتى وهو في قبره، تحت الأرض، لأنه لا يريد أن يخيب أمل الناس الذين عبدوه.
أعتقد أننا نفعل هذا للصبيان، نحن لا نسمح لهم بأن يكونوا بشراً، وهذا يؤدي إلى افتقارهم إلى شعورهم بالتعاطف مع الآخرين).
أما عن دوافعها لكتابة هذا الكتاب ونشره في هذا الوقت، تقول:
(لقد شاركتُ في حركة محاربة العنف ضد النساء والفتيات منذ 21 عاماً، وسمعت أسوأ القصص في العالم، وتبادر إلى ذهني سؤال بعد كل ما قيل في حملة “مي تو”، التي أفصحت فيها النساء عن كل التفاصيل، ولكن أين الرجال من كل هذا؟
لماذا لم أسمع رجلاً يعتذر علناً، وبشكل واضح وشامل على الإطلاق؟
إذا لم يتقدم الرجال الآن ويعتذروا، وأعني بذلك تقديم شرح مفصّل وشامل بالأفعال السيئة التي قاموا بها، فكيف سينتهي هذا؟).
أوضحت إيف، أنها لا تشعر بأي حقد تجاه والديها، بعد أن اعترفت والدتها بعلمها بما حدث لها، واعتذارها منها مراراً، وتقول عن طفولتها ورداً على سؤال بي بي سي، فيما لو تلقت أي دعم في تلك المرحلة، تقول: (كانت لدي خالة رائعة، بالإضافة إلى مربيات كنتُ أحظى بمحبتهن ورعايتهن، أعتقد أنهن أنقذن حياتي).
وعلى موقع “تِد”، يوجد العيد من الفيديوهات ل”إيف إنسلر”، التي شاركت تجاربها وخبراتها مع الناس من خلالها، ولعل أهمها بهذا السياق، هو كيفية استعادة جسدها، بعد شعورها بالانفصال بين جسدها وتفكيرها لزمن طويل، وكيف عالجت نفسها، ويُمكن مشاهدة الفيديو في الرابط المرفق: https://www.ted.com/talks/eve_ensler_the_profound_power_of_an_authentic_apology?language=ar
المصادر:
- بي بي سي14 يونيو/ 2019م.
- فيديوهات “إيف إنسلر” على موقع تِد: https://www.ted.com/