(من مؤسسة شعارها “العمل من أجل بناء عالم أفضل” إلى السجن بتهمة الإتجار بالجنس، والاستغلال الجنسي للأطفال).
(إنّي أدرك أن المرء لايستطيع الاستمرار في العيش مع الآخرين، بدون أن يتحكم بهم، أو بدون أن يخدموه، فكل إنسان يحتاج إلى العبيد، كما يحتاج إلى الهواء النقيّ، والأمر هو – تنفس – أتوافقني؟).* من رواية “السقطة” “لأبير كامو”.
لا أعلم لماذا حضرني هذا الاقتباس، ولكنه أول ماجاء في ذهني حين بدأت بكتابتي هذا الموضوع، ورغم عدم موافقتي الكاملة عليه، إلا أنني لا أنكر ما يتضمنه من فكرة فلسفية، ومدى عمقه في السلوك البشري الذي يميل للمازوخية برأيي الشخصي، فالاستعباد ظاهرة تمتدُّ أصولها لزمن بعيد، وكان هذا الأمر لايخضع للاستنكار، فهو فعل كان يُمارس بشكل طبيعي لوقت طويل، وبما أن ميزان الأخلاق يخضع كذلك للتطور والتعديل، فقد بدأ في العصر الحديث استنكار هذا الفعل، وسن قوانين تجرّمه وتحد من انتشاره ومنعه، ولكن هذا لايعني اندثاره تماماً، فبين الحين والآخر، نجد من يحاول استعادة تلك المعايير، لإسقاطها على زماننا، ولا أريد الخوض بالتركيبة المعقّدة للسلوك البشري وعقله، ولكن لابدّ لي من القول: (إن العقل البشري يشبه فكرة آلة السفر عبر الزمن، فلا ينفك عن استحضار الماضي، وإسقاطه على الواقع والمستقبل).
هنا تكمن المعضلة، ومن هنا يتم التلاعب والتحايل على الكثير من البشر، ومع التطور السريع الحاصل، وصعوبة الحياة وتأمين المتطلبات، وتداخل الأولويات وانحسار المبادئ، يقع الإنسان تحت فك الضغط النفسي، وتبدأ شخصيته بالانحسار بهذه الفوضى، وتتلاشى ثقته بنفسه شيئاَ فشيء، وهنا تُطلَق صافرات الإنذار من قبل المنظمات والمؤسسات المختصة، لتبدأ العمل على فهم وتحليل أوسع، للوصول إلى نتيجة تمكّنها من مساعدة هذا الإنسان، ليكمل حياته، ويتجاوز العقبات والصعوبات التي تواجهه.
ومن المؤسسات التي انتشرت بشكل ملحوظ بالعقود الأخيرة، كانت المؤسسات المعنية بالتنمية البشرية، وللأسف أن أغلب هذه المؤسسات، ابتعدت عن الفكرة في الإصلاح الفعلي والحقيقي للإنسان، واعتمدت أغلبها على الخطاب السطحي، والتأثير السريع المؤقت، وهذا التأثير المؤقت ساعدها على الانتشار، والبعض منها ذهب لأماكن أبعد وأسوء، بل ذهبوا تماماً لعالم الجريمة والإتجار بالبشر والاستعباد الجنسي، وخاصة النساء ومنهن القاصرات؛ ومن أهم تلك المؤسسات والتي أحدثت ضجة كبيرة بعد انكشافها عام 2019 م، هي “نكسيوم” والتي كان مقرها في مدينة ألباني شمال ولاية نيويورك،
بحسب الموقع الإلكتروني الخاص بـ “نكسيوم”، فإنّها تصف نفسها بأنها (جماعة تسترشد بالمبادئ الإنسانية، التي تسعى إلى تمكين الناس، والإجابة على أسئلة مهمة عن معنى أن تكون إنساناً! وشعارهم “العمل من أجل بناء عالم أفضل”)!
أسسها “كيث رانييري” عام 2003 م، بمشاركة زميلته “نانسي سالزمان”، والتي كانت تعمل معه سابقاً في (العلاج النفسي)، تأسست الجماعة تحت غطاء شركة تنمية بشرية، وبهذه الفترة التحق ما يُقدر بنحو ثماني عشرة ألف شخص بورش عمل المجموعة، واقتصرت تلك الورش على عدد ساعات قليلة من العمل، فلم يكن الهدف من هذه الورش، إلا اصطياد الفتيات (المناسبات)؛ واللاتي من الممكن وقوعهن بمثل هذه المصائد، واللواتي يكمن التركيزعليهن أكثر من سواهن، مثل الفتيات المندفعات بتهور، القاصرات والمراهقات، أو اللواتي تعرضن لظروف مادية أو نفسية قاهرة، سواء بفعل الحروب، أو المجاعات، أو الكوارث الطبيعية، أو حتى الترهيب والتهديد من جماعات أو أشخاص، فاخترن الهروب للمجهول.
فمن الشخصيات المشهورة التي تورطت بالعمل مع “رانييري”، كانت المليارديرة الأمريكية “كلير برونفمان”، والتي اعترفت أمام محكمة في بروكلين، بإيواء امرأة هربت إلى الولايات المتحدة، بتأشيرة عمل مزيفة لاستغلالها في العمل.
وأبرز الممارسات الإجرامية لجماعة “نكسيوم” تتمثل في تجنيد مجموعة كبيرة من الفتيات، وإجبارهن على الانخراط في ممارسات شنيعة مثل الجنس مقابل المال، وتم الكشف عن أن إحدى ضحايا “رانييري”، كانت طفلة تبلغ من العمر15 عاماً، عندما بدأ تجنيدها والاعتداء عليها.
*أساليب الإخضاع
من الأساليب المتبعة لفرض السيطرة والخضوع التام، كان يقوم “رانييري” بتصوير الفتيات في أوضاع مخلّة، وكذلك إكراههن على ممارسة الجنس معه، وتلقينهن أن يقمن بتبجيله، وكان يفرض عليهن نظام غذائي صارم، يحافظ على لياقتهن البدنية؛ وفي عام 2015م أنشأ “رانييري” منظمة أخرى سماها “DOS”، والتي كانت فيها النساء تصنف كحرة أو كعبدة، وعلى الجميع إطاعته باعتباره الزعيم الروحي لهذه المنظمة، وكل الأعضاء كانت من النساء، وكانت “العبدات” بالتحديد، يرغمن على ممارسة الجنس مع “رانييري” الذي كان لقبه “المعلم الكبير”؛ وقبل قبولهن كعبدات، كان ينبغي عليهن أن يقدمن ضمانات، من صور ورسائل ووثائق، لابتزازهن في حال قررن مغادرة المنظمة، أو الكشف عن عملها، وكان البعض منهن يخضعن لعملية “وشم” تقوم على كتابة أحرف، غالباً ما تكون الأحرف الأولى من اسم “كيث رانييري”.
*الخطر المستتر
الخطورة الكامنة تظهر لنا ببيان الادّعاء العام، والذي جاء فيه: (إن المتهم استخدم تقنيات كلاسيكية في علم النفس للسيطرة على الأشخاص).
جميعنا يعلم كيف يتم استقطاب مثل هذه المؤسسات للعمل في دول العالم، أما بشراكات مع مؤسسات أو بعمل منفرد، ولا يخفى على أحد أيضاً حجم الدمار النفسي الذي ضرب منطقتنا، بعد مرورها بحروب وكوارث لأكثر من عقد من الزمن، ومثل مؤسسة “نكسيوم” ستجد البيئة المناسبة لها في هذا الخراب الحاصل على كل الأصعدة، وسيكون من السهل جداً إيجاد الضحايا المستهدفات في مثل هذه الظروف، وهنا يجب الحذر كثيراً والتيقن، من أي مؤسسة سنتعامل معها أو نستقطبها، وهذه مهمة الدولة أولاً، وفي الظروف الاستثنائية تكون مهمة المؤسسات المحلية، فهي موضع القدم الأولى لهم، ولا أعفي الأسرة والأهل ككل من هذه المسؤولية، فلهم الدور الأساسي في حماية أطفالهم.
والخطر الثاني كان بتصريح محامي “رانييري” السيد “مارك أنيفيلو”، والذي وجهه لهيئة المحلفين في جلسات مغلقة، جاء فيه: (إن موكله لم يجبر أي امرأة على عمل شيء رغماً عنها)، وهذا ماأكّده رانييري”، فهل حاول “رانييري” استعادة الماضي وإحياء معادلة السيد والعبد، فاستسلم لميوله الشاذ وبرره بأن ماحصل كان بالتراضي؟ خاصةً أنه لم يظهر أي نوع من الندم!؟
هل كل مايوافق عليه الإنسان من فعل، أو قول أو فكرة، يعدُّ دليل على صحته وسويته؟
إذاً لماذا لايتم التعامل مع حالة القتل بالتوافق على نفس المبدأ؟
فمن قتل إنسان، وحتى بموافقته أو بطلبه لإنهاء حياته، لن يتم التعامل مع الفاعل إلا كقاتل، فالموافقة لاتعني إسقاط الجرم، لأن المُجرم هنا استغل الضحية، والاستغلال كان لخلل وظيفي في عقل الضحية، أو لحالة نفسية معينة، وربما تكون مؤقتة، أو ظرف قاهر؛ والمجرم لم يكن هدفه إلا إرضاء ميوله الإجرامية، وإشباع إدمانه المؤذي، ومن المثير للسخرية أن كل المبتزين في مثل هذه القضايا، وخاصة المرتبطة بالمرأة يتذرّعون بالذرائع نفسها، وثيمة “العلاقة بالتراضي”، غالباً ما تكون هي الحجة التي يُدافعون بها عن أنفسهم، دون أخذ أي اعتبار لظروف الضحايا، ولا لحيثيات الوقائع، ولا لما قاموا به من سلوكات تُشكّل ضغط كبيرعلى الضحايا وتحاصرهن، لدرجة تفقدهن توازنهن، وتحرمهن من إمكانية طلب المساعدة.
*نهاية نكسيوم
وفقاً للإفادة المقدّمة من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي F.B.I. فإن “رانييري” كان على علاقة بسيدات فاحشات الثراء، منهن كلير برونفمان وسارة برونفمان، بالإضافة إلى نانسي ولورين سالزمان، والممثلة الدرامية أليسون ماك
قال “ريتشارد دونوجو”، إضافة لمحاولات استقطاب عدد من الفنانات الشهيرات في هوليوود.
المحامي العام في القطاع الشرقي لمدينة نيويورك في بيان له: (أليسون ماك جندت نساءً للانضمام إلى ما كانت تدعى “جماعة رصد نسائية”، أسسها وأدارها في الحقيقة، كيث رانييري).
تم اتهامهن جميعاً بمؤامرة ابتزاز تتضمن مجموعة من الجرائم، بما في ذلك جرائم انتحال هوية، والابتزاز والعمل القسري، والإتجار بالجنس وغسل الأموال، والاحتيال الرقمي، والاستغلال الجنسي للأطفال، وحيازة المواد الإباحية للأطفال وعرقلة سير العدالة.
تم القبض على “رانييري في المكسيك”، في مارس/آذار عام 2018، وذلك بناءً على طلب من مسؤولين أمريكيين، وتم توجيه العديد من التهم ضده؛ صدر الحكم بحقه في أكتوبر/تشرين الأول، من عام 2020 بالسجن ما مجموعه 120 عاماً، وهو ما سيتم تطبيقه عملياً بالسجن مدى الحياة، ودفِع غرامة تصل إلى 1.75 مليون دولار.
وتم الحكم على المليارديرة الأمريكية “كلير برونفمان” بالسجن لمدة 25 سنة، والحكم بحق “أليسون ماك” بعقوبة السجن ثلاثة أعوام.
ومع اشتداد حاجتنا لعلم النفس كاملاً، ستكون إمكانية وصول واقتحام مؤسسات مثل “نكسيوم”، وأشخاص كـ “رانييري” إلى حياتنا بشكل أسهل، فبحجم حاجتنا تلك، علينا التأني والتأكّد جيداً من طريقة العمل، سواء كان مع أفراد أو مؤسسات، قبل الانخراط معهم، والتورط بنتائج كارثية.
انتهت مؤسسة نكسيوم وتوقفت عن العمل، ولكن هل انتهت البشرية من أشباه “كيث رانييري”؟!
المصادر:
وكالات : ا.ف. ب، رويترز، الفرنسية للأنباء… وغيرها – 20 يونيو/ حزيران 2019/
مواقع إلكترونية: بي بي سي العربي / آر تي العربي… وغيرها.
*إعداد: محمود عبود.