السينما كعلاج ووثيقة إدانة…..
يُصنف فيلم (موكب) فنياً – من إخراج وتحرير “روبرت غرين”- كفيلم وثائقي، ولكن على عادة “غرين” في إخراج أفلامه، هو فيلم لا يشبه ما اعتاده الجمهور من أفلام وثائقية، إذا أن فريق عمل الفيلم وأبطاله هم جميعاً جزء من مادة الفيلم، والجميع كتب قصته، واختار جزء من موقع التصوير، وقدم الصياغة المناسبة لرؤيته، ومثلّها أيضاً بمشاركة الآخرين، فأنتج روايته الخاصة ضمن عدة روايات، تتناول الانتهاكات الجنسية التي تعرض لها ستة من الأطفال – باتوا اليوم رجالاً – من قبل رجال دين في الكنيسة الكاثوليكية، في مدينة كانساس الأمريكية بولاية مونتيسوري، فكان الفيلم ليس مجرد وثيقة إدانة، بل رحلة علاج أيضاً لهؤلاء الأشخاص المُعذبين، وإدانة للنظام القائم القضائي منه والاجتماعي، وفضح الصمت المستمر،على جريمة تواطأت جهات عدة في المجتمع، من أجل طمسها بالرغم من كثرة عدد الضحايا.
بداية الفكرة وبناء مخطط الفيلم
في عام 2018 م، شاهد “غرين” تقريرًا إخباريًا تلفزيونيًا، عن الضحايا، وسمع محاميتهم “ريبيكا راندلز” في مؤتمر صحفي، وهي المحامية التي حققت في ما يقرب من 400 ادّعاء ضد مسؤولين دينيين بعينهم، وكانت مع ثلاثة من الرجال الستة الذين سيشاركون في فيلمه الوثائقي لاحقاً، فاتصل “غرين” ب”راندلز”، وتساءل إذا كان من الممكن لهؤلاء الرجال المشاركة في فيلم لن يكون عنهم، بل معهم، ووافق ثلاثة منهم (مايكل ساندريدج ، توم فيفيانو ، مايك فورمان) على سماع مخرج الفيلم، ومن ثم اقترحت “راندلز” ثلاثة ناجين آخرين (جو إلدريد ، وإد جافاجان ، ودان لورين)، ممن اعتقدت أنهم قد يستفيدون مما كان يدور في ذهن “غرين”، إذ كانت الفكرة أن هؤلاء الرجال، وبمساعدة معالج درامي مدرّب، سيتمكنون من إعادة النظر في بناء تجاربهم، ويعيدون تمثيل بعض اللحظات المؤلمة حول إساءة معاملتهم، ويواجهون أنفسهم من أجل تخطي معاناتهم، وبدأت رحلة من العمل امتدت ثلاث سنوات بين “غرين” و”راندلز” ومعالجة الدراما “مونيكا فيني” والرجال الستة: (جو إلدريد ومايك فورمان وإد جافاجان ودان لورين ومايكل ساندريدج وتوم فيفيانو).
يبدأ الفيلم بجزء من مشهد المؤتمر الصحفي، والذي تعرب فيه “راندلز” عن اشمئزازها من تعفن رجال الدين، وتعلن أن هناك ما لا يقل عن 230 عضواُ في منطقة مدينة كانساس، لديهم تاريخ من الاعتداء الجنسي على الأطفال في المنطقة، وكانوا يمارسون الانتهاكات بنشاط على مدى عدة عقود، وقد حان الوقت لتحميل الكنيسة المسؤولية، ويجب أن تتحقق العدالة، وقد تقدم عدد من الضحايا علناً لتوضيح اتهاماتهم ضد القساوسة الذين أساءوا إليهم، وللإعلان عن رفض الكنيسة للتحقيقات، والبدء بتحقيقات جنائية، لا تهتم بقانون التقادم الذي تتذرع به الكنيسة.
الصدمة – الجسد
قامت فكرة “غرين” في صناعة الفيلم، بالتنقيب عن ذكريات الصدمة المدفونة في أعماق أجساد الضحايا، واستعادة الأحداث الصادمة المخزونة في ذاكرة كل منهم على أنها وصمة عار، مما يجعل فعل التذكر نوعًا مختلفًا من العنف، يقاومه العقل بهدف الحماية الذاتية، لذلك يهرب الضحايا من ذاكرتهم، حتى أن بعضهم لم يعد يتذكر الطفل الذي كان ولا يريد مواجهته، ولكن ماذا يحدث عندما تتسرب تلك الذكريات إلى العلن، وتغيب رقابة العقل، وتندفع المكبوتات؟
عن طريق العلاج الدرامي، وبتوجيه من المعالجة الدرامية، و”غرين” نفسه، تُستعاد الذكريات الأليمة، ويواجهها الضحايا، وصولاً إلى التخلص من صدماتهم، خلال أدائهم لقصص حياتهم، وعبر تفاعل المخرج مع الضحايا كمشاركين، بدلاً من كونهم موضوعات.
اجتمع الرجال الستة معاً، مع وجود ثقة أقل، وشكوك أولية، وخوف مقنع بالدعابة، وتردد، يليه قبول خجول للشروط، ثم يبدؤون في العثور على العزاء في صدماتهم المشتركة، ويتعلمون المزيد حول ردود أفعالهم على أنها آليات تكيّف لاشعورية، فيساعدون بعضهم بعض على تفكيك العقد الكامنة في ذهن كل منهم شيئاً فشيئاً، واستعادة الصور القديمة وإعادة بناء الأحداث، متخلصين من وصمة العار، والشعور بالخجل، أو الضعف، مع الكثير من الدموع الممزوجة بالابتسامات الباهنة، والضحكات المبهجة، المشوبة بالألم، ومن ثم يقرّر الجميع الانخراط بالتجربة، وحسب قول أحدهم: (للدفاع عن الصبي الصغير الذي لم يستطع).
من كتابة النصوص إلى إنتاج الأفلام ورحلة التعافي
يجتمع الضحايا ( جو إلدريد ، مايك فورمان ، إد جافاجان ، دان لورين ، مايكل ساندريدج ، وتوم فيفيانو)، مع “مونيكا فيني”، أخصائية العلاج بالدراما، وتبدأ المجموعة العمل معاً، لمناقشة وتحديد معايير مشاريع النصوص، والتي سيكتبها الرجال/ الضحايا ويوجهها “غرين”، وتكشف النصوص التي ينتجونها بالنقاش والتعاون فيما بينهم، عن تنويعات مختلفة ومتعددة لتجاربهم مع الإساءة والانتهاك.
يحلم “غافاجان”، برواية قصة – مثل قصة أبطال مارفل الخارقين، والذين يقهرون قوى الظلام الشريرة- فيكتب دراما مروّعة لإساءة معاملته الجسدية، في ثوب الكاهن، مع غياب أي شيء جنسي صريح في الحدث، ويكتب “ساندريدج” قصة تدور أحداثها في الكنيسة، حيث يصوّر كاهنًا بعيون ليزر خضراء، شريرة، ويصوّر نفسه في طفولته على أنه البطل الخارق، بينما يكتب “فورمان” نصاً من جزأين، يصور أولاً آثار إساءة معاملته، عندما كانت والدته غير مدركة لما حدث، تخبز كعكة للكاهن المعتدي، وتذهب ب”مايك” الصغير، المرعوب، والصامت بذهول إلى بيت الكاهن لينقذه، ومن ثم فإنه يعيد مشهد اجتماعه مع مجلس المراجعة المستقل للكنيسة عام 2013م، الذي تذرّع بقانون التقادم لرفض ادّعاءاته، وحتى تكذيبه، وهكذا يمضي الجميع في بناء مشاهد خيالية، تصوّر طقوس السلطة داخل الكنيسة، المكان الذي تعرضوا فيه للاعتداءات، وبات مصدر ذكريات مؤلمة دفنها كل منهم في أقاصي أعماقه، بينما لا يستطيع “توم فيفيانو” سرد قصته، لأنها لا تزال أمام المحاكم، فتتمثل مساهمته في التمثيل، إذ يلعب دور الكهنة المعتدين في روايتين، بكل ما يُفترض أن يمثله ذلك من مشاعر مؤلمة لانتحال شخصية هؤلاء.
إعادة تمثيل الأحداث الصادمة
يُساعد الرجال بعضهم بعض في تبادل وبناء الأفكار، حول تصوير خمسة مشاهد مكتوبة بناءً على تجاربهم، واستكمال عناصر مختلفة من عملية الإنتاج بأنفسهم من: (التمثيل، الملابس، والعثور على المواقع التي لم يزرها أي منهم الموضوعات منذ طفولتهم أو شبابهم، إعادة بناء موقع جديد، بناء المشاهد درامياً).
يختار الرجال أساليب مختلفة لإنتاج قصصهم، لكنهم قرروا جميعاً اختيار الممثل نفسه “الطفل تيريك”، ليكون الطفل الذي كانه كلِ منهم في جميع الأفلام الستة، ويناقشون كيف قررت عائلته السماح له بالتمثيل معهم.
يريد أحدهم إعادة تمثيل كابوس متكرر، وآخر يضع كلاماً بذيئاً مٌفعم بالشتائم للأشخاص الذين خذلوه، ويجد أحدهم صعوبة في الوصول إلى إنهاء الأمر وإغلاق القصة، مع إدراك كل منهم أن التعافي يتطلب الرجوع إلى الخلف، بقدر ما يتطلب من التقدم إلى الأمام، لذلك كان لابدّ من استعادة الماضي ومواجهته.
يُمثّل الرجال في أفلام بعضهم بعض، لكن الأهم كان في التحضير للعمل مع “فيني” و”غرين”، يؤدّي كل منهم بشكل قاسِ وصعب جداً، مشاهد تتطلب الإقرار بتفاصيل ورواية أحداث تُظهرالآثار الطويلة المدى لصدماتهم، والتي تتجلى بردود أفعالهم وانفعالاتهم، وغصبهم، والانفجار ببكاء مرير، ف”غافاجان”، غير قادر على التصوير في اللوحة الفعلية التي تعرض فيها للإيذاء، أعاد بنائها بدقة، هو والرجال الآخرون، والتي سيقوم بتحطيمها في النهاية ( غرفة نوم الكاهن)، كما تضمن البحث عن موقع محدد أحياناُ، معاناة كبيرة، من مثل مجموعة من منازل البحيرة، حيث تعرض “لورين وشقيقه تيم” فيه لسوء المعاملة والانتهاك، دون أن يتكلم أحدهما للآخرعن ذلك ولو مرة واحدة، وهذا ما يُبين كيف أن الأمر أثار الرعب بشكل مروع لكلا الرجلين، وبعد بحث طويل، وجد لورين مكانًا مُحددًا، مساراً ما، حيث اكتشف تعرضه لخداع ذهني، وتلاعب إدراكي، قاسي صادم، يقول: (هذا هو الطريق اللعين، هذا هو المسار الذي كسرت فيه صنارة الصيد)، يؤكّد تيم ذلك: (هذا هو المكان).\
ما بين الخيال والواقع، وفي فيلم واحد، تُروى عدة حكايات لتجارب مؤلمة، ويواجه الضحايا ذواتهم لأول مرة، ويستحضرون بداخلهم الطفل الذي تعرض للانتهاك، بعد أن هربوا منه سنوات طولة، وبعد مضي عقود على ما تعرضوا له من إساءات وانتهاكات، وتنهار الخطوط الفاصلة بين السينما كفن وبين الواقع، كما تنهار بين السينما والعلاج التدعيمي، فالفيلم بالرغم من أنه أشبه بجلسات علاج جماعي، وهذا ما شرحته “فيني”: (الاستخدام المتعمّد للمسرح الدرامي، ولعب الأدوار من أجل هدف علاجي)، ومع ما قام به الرجال من إنتاج أفلام قصيرة خاصة بهم، تعكس الانتهاكات التي تعرضوا لها، بهدف استعادة تلك الذكريات، وتوفير الحماية للطفل الذي كانه كل منهم، إلا أنه يبقى فيلم وثائقي، يتناول قضية شائكة، ولعينة، وحساسة، من أكبر القضايا التي واجهتها الكنيسة الكاثوليكية عبر تاريخها، وأخطرها، ويوثّق كل مرحلة من مراحل تعافي الناجين، التي انتهت لدى كلِ منهم بكثير دموع الفرح، بعد التغلب على ألم شخصي ساحق لأرواحهم، مع انفجارات من الغضب عند استعادة الذكريات الأليمة.
فيلم “الموكب”، بمثابة صرخة ألم، ورحلة شفاء، ودعوة لكسر الصمت، وتعزيز الاندفاعات الشافية للاعتراف بالذات، واستعادة ما فُقد منها، وصرخة في وجه التواطىء الضمني السائد منذ فترة طويلة بشأن الاعتداء الجنسي على الأطفال، وإنها ليست مفارقة أبداً، أن تأخذ كلمة “الموكب” الانكليزية، معنى الانزياح حيناً، والانبثاق حيناً آخر، بكل ما تحمله هذه المفردات من دلالات نفسية، فكانت اسماً لهذا الفيلم.
*الفيلم بدأ عرضه على نتفليكس في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وكان عرضه العالمي الأول في مهرجان تيلورايد السينمائي في 2 سبتمبر/أيلول 2021م، كما عُرض في مهرجان كامدن السينمائي الدولي في 17 سبتمبر/أيلول، وتم إصداره في إصدار محدود في 12 نوفمبر 2021 ، قبل البث على نتفليكس في 19 نوفمبر الماضي.
- المصادر:
- https://www.hollywoodreporter.com/
- https://www.newyorker.com/culture/the-front-row/procession-reviewed-an-
- astonishing-collaboration-with-victims-of-sexual-abuse
- https://www.rollingstone.com/movies/movie-reviews/procession-movie-review-catholic-church-sexual-abuse-1254724/
- https://www.nytimes.com/2021/11/18/movies/procession-review.html