من رسالة “كافكا” لوالده:
“لم أكن سوى طفل شديد الخوف، رغم أني كنت لا شك عنيداً أيضاً، كما هو حال الأطفال، وكانت أمي تدللني بكل تأكيد، إنّما لا يمكن أن أصدق أني أنا بالذات كنت صعب الانقياد، ولا يمكن أن أصدق أن كلمة حنان أو لمسة وديعة، من يد أو نظرة عطف لم يكن بوسعها أن تنال مني كل ما يريده المرء.
كما أنك في الأساس إنسان مليء بالطيبة، ليِّن الجانب، لكن ليس لكل طفل من الجَلَد والجسارة، ما يمكّنه من البحث طويلاً كي يحظى بطيبتك، كما أنه لم يكن بوسعك أن تتعامل مع طفل إلا وفق جبلّتك التي نشأتَ عليها، أي بالقسوة والصراخ والحدّة، وكان يبدو لك أن هذه الحالة مناسبة للغاية، إذ إنك أردت أن تنشئ شاباً قوياً شجاعاً”.
الأسرة هي المرجعية الأولى للطفل في معارفه، وقيمه ومعاييره، فهي المصدر الأول لإشباع الحاجات الأساسية للطفل، وتُشكّل الأساس الاجتماعي والنفسي له، وهي مصدر الحماية المطلق وغير المبني على قاعدة المصلحة، وتُهيّئ الأسرة الطفل لاكتساب مكانته في بيئته ومجتمعه، حيث تُعدّ المكانة التي توفّرها الأسرة للطفل بالميلاد والتنشئة، محدداً مهمّاً لمعاملته في المجتمع ونظرة الآخرين إليه، فكل مايتم تلقينه إيّاه أو مايسمعه ويشاهده سيكون له دوراً مهماً ببناء شخصيته، وأساس بناء شخصية الإنسان، هو بناء ثقته بنفسه منذ الطفولة، وليمتلك الطفل هذه الثقة يجب أن يثق بأهله أولاً، ويشعر بالأمان اتجاههم؛ وهناك خيط رفيع للانتقال من معنى كلمة الأسرة ودورها بالحماية، إلى التحول لدورها السلبي في الأسْر، فتقيد وتكبّل الطفل وتكبته؛ وحين يخرج الطفل ليبدأ الانخراط بالمجتمع، يكون هشاً ضعيفاً، ويواجه الكثير من المعضلات والعقبات والمشاكل، فإن لم يكن لديه من يعينه على تجاوزها وحلّها، سيتفاقم الوضع وربما تذهب الأمور إلى ما لايحمد عقباها.
*طفلك يحتاج لوقتك
الكثير من الآباء أو الأمّهات مشغولين، ما بين بالعمل وواجبات الأسرة والبيت، فتكون من أولوياتهم توفير احتياجات الطفل المادية والمدرسية وغيرها، ولكن في كثير من الأحيان يتم إهمال الرعاية النفسية، فالأطفال يحتاجون لوقت كاف يمضونه مع أبويهم، فيتكلمون أو يلعبون معهم، ومن هنا تتوطّد العلاقة وتصبح متينة من جهة، ومن جهة أخرى يمكن فهم الطفل بشكل أوضح، والتعرف على سلبياته وإيجابياته، نقاط ضعفه وقوته، هواياته واهتماماته وميوله، والمحادثة مع طفلك تمكّنك من التعرف على الكثير مما يحدث معه بالخارج، وحينها سيعتبرك مرجع أمان وثقة، وصديق يصدقه بكل أقواله وأفعاله.
الإنصات للطفل أمر مهم جداً، فللأطفال عالمهم وأسلوبهم بالتعبير، ولديهم سلوكياتهم الخاصة بعالمهم هذا، فمن الغلط نهرهم أو الاستهزاء بهم وبأحاديثهم، فلهذا أثر كبير على صحتهم النفسية وسلوكهم، والأثر سيكون مضاعفاً، إن كان أحد الوالدين أو كلاهما يتبع هذا الاسلوب بالتعامل مع الأطفال، وهو كذلك لايعطيهم الوقت الكافي للحديث معهم، وبهذه الحالة وفي الوقت القصير الذي سيمضيه الطفل مع والديه، وإن كان هذا الوقت بصورة سلبية، حينها ستتشكل الصورة الرئيسية عن والديه انعكاساً من تلك التصرفات، وسيكون من الصعب محوها أو تصحيحها في المستقبل.
“بعدها بسنوات صرتُ أعاني من تصورات مضنية مفادها أن ذلك الرجل الضخم، والدي، مَثَلي الأعلى، كان بإمكانه أن يجرّني من السرير ويمضي بي نحو الشرفة، وأنني لم أكن بالنسبة إليه سوى نكرة. لم يكن ذاك حينئذ سوى البداية؛ غير أن ذلك الشعور بالدونية واللاشيء، والذي سيستحوذ عليّ كثيراً ، ليس إلا نتاجاً لأثرك عليّ”. *من رسالة كافكا لوالده.
لكل إنسان صفاته وسماته التي تختلف عن غيره، هي هويتنا وفردانيتنا، ومن الخطأ إسقاط تجاربنا، وأفكارنا، أو حتى سلوكياتنا على الآخرين، فكيف لو كان هؤلاء الآخرون هم الأطفال، الأسرة معنيّة بحماية الطفل وتوفير حياة آمنة وكريمة، حياة تمتاز بالصحة البدنية والنفسية، وليس هدفها إنشاء نسخ متطابقة عن الأبوين.
*إعداد: محمود عبود.