على وسائل التواصل الاجتماعي كشف المسكوت عنه من العنف المدرسي في فرنسا

كسر حاجز الصمت عن الإساءة الجنسية في المدارس

عقب الكشف عن تقرير المفتشية العامة في فرنسا، الذي نشره مؤخراً موقع “ميديا بارت”   بشأن مدرسة ستانيسلاس  الباريسية الخاصة، حول الانتهاكات المتعددة الأشكال الممارسة بحق الطلاب. نشرت صحيفة جمهورية جبال البيرينيه، موضوعاً يتعلق بفتح تحقيق أولي عن أعمال العنف الجسدي والجنسي في منطقة أخرى، مؤسسة تعليمية خاصة أيضاً.

حيث تم فتح تحقيق عقب تقديم 33 طالباً سابقاً في المدرسة الكاثوليكية ( نوتردام دي بيثارام ) التي تستوعب حوالي 280 طالبًا شكوى – والرقم في ازدياد مطرد-. تتهم بعض القائمين في المؤسسة، سواء كانوا متدينين أو علمانيين، بممارسة أعمال عنف على الطلاب واعتداءات جنسية، وصفتها الصحيفة المحلية بأعمال عنف موصوفة في أغلبها، بينما تتحدث خمس منها عن اعتداءات جنسية، والغالبية منها ارتكبت في أوائل الثمانينات.

 ونتساءل هنا وبدهشة: كم من الأسرار بقيت حبيسة أسوار المدارس؟ وكم هي الأصوات والصيحات  اختنقت في مهدها ولم يسمعها أو يصدقها أحد؟ هل يمكن أن تكون تلك الصروح التربوية والتعليمية اشبه بمعتقلات تعذيب، وكأنها  غدت آلة عملاقة لتحطيم الفرد؟ وهي التي من المفروض أن تكون المكان الأكثر أمناً، وحماية وداعماً لرفاهية الفرد ونموه.

 وردت هذه الأسئلة في ذهني، وأنا أتابع على المواقع الفرنسية وصحفها تداعيات الفضائح التي طفت على السطح، حول أنواع العنف الذي يتعرض له الطلاب الفرنسيون في المدارس الفرنسية، سواء منها الدينية أو العلمانية، وتتعلق بشكل رئيسي بالعنف الجسدي،وكذلك الاعتداءات الجنسية والاغتصاب.

كما ظهرت تقارير من دول أخرى تتحدث عن الاعتداءات الجنسية التي يتعرض لها الطالب، حتى من قبل معلمه في المدرسة، ويصفها أحد التقارير الأميركية الصادرة حول هذا الخصوص ب ” وباء اجتماعي “.

شهادات على الفيسبوك تفضح حقائق العنف المدرسي

كان قد تم اكتشاف هذه القصص عن طريق صفحة على الفيس بوك، أنشأتها مجموعة من طلبة المؤسسة السابقين، تهدف إلى جمع شهادات عن العنف الذي تعرضوا له فيها.

“يخبرك الناس عن محنتهم، وعن أشياء عانوا منها في سن العاشرة أو الثانية عشرة، ولم يخبروا أحداً بها قط. لقد اختبؤوا بصمتهم، بينما يعيش بعضهم على بعد 10 كيلومترات من المؤسسة.”

يعلق الطالب السابق في المؤسسة “آلان اسكوير” على هذا الموضوع بقوله: (لقد فتحنا صندوق باندورا )، واسكوير يعتبر ممن “عانى وشاهد العنف الجسدي بشكل يومي” ويدين “إجراءات العنف الراسخة” المعمول بها في هذه المؤسسة النخبوية، ويلخصه قائلاً: (لقد عومل الأطفال مثل الماشية، لقد سرقوا طفولتنا، هنا اكتشفنا ما لا يمكن وصفه، لا بد وأن يشكل هذا فضيحة وطنية)، بينما يعترف زميله “آلان ديسبوتير” الطالب السابق ايضاً: (كنا داخل ما يشبه  معسكرات الاعتقال في العهد السوفييتي”، المحمية في البيرينيه)، ومن جانبه، يعبر الطالب “باسكال جيليه” عن سعادته (لأن هؤلاء الطلاب ضحايا عنف المدرسة أصبح بإمكانهم الآن قلب الصفحة، ويجدون من يسمعهم ويتفهمهم ويصدقهم )، فقد  كانت المدرسة وكر مناسب لممارسة ( البيدوفيليا )/ التحرش بالأطفال, في مكان معزول).

الوقائع المسكوت عنها

وتجدر الإشارة, أن هذه المؤسسة الخاصة والكاثوليكية الشهيرة، التي تقع على بعد 30 دقيقة من مدينة باو في الجنوب الغربي الفرنسي، وتم إنشاؤها عام 1853م، استفادت من تغطية إعلامية  خلال تسعينيات القرن الماضي، حينما تم الكشف عن أعمال عنف هناك وهزت الفضيحة المنطقة، في أعقاب التحاق نجل “فرانسوا بايرو” بتلك المؤسسة التعليمية، وكان حينها يشغل منصب وزيراً للتربية الوطنية، وسمع السياسيون المحليون ما يحدث في المؤسسة، ورفضوا التزام الصمت: (لقد فجّر الطالبان دوست بلازي وبايرو حالات سوء المعاملة، لكن هذا ليس كل شيء. هذه أشياء صغيرة تحدث في كل مرة).

 ويصف “آلان ديسبوتر”، والذي كان أحد ضحايا العنف في المؤسسة، على صفحة الفيسبوك هذه الانتهاكات، وهذا الرعب الذي كانوا يواجهونه بأنه ( رعب استثنائي )، وبأنه من الصعب التحدث عنه: (الناس لن تصدقك، فهم يروها أقرب إلى قصص الخيال)، والسبب من وجهة نظره: (إن ذويهم لم يستمعوا إليهم. لدي أصدقاء انتحروا، وآخرين يرفضوا سماع أي شيء عنها)، ويضيف: (لدي العشرات من الشهادات، عبر صفحة أنشأتها على الفيسبوك بعد فترة من تركي المدرسة)، وجاء ذلك حين قرر جمع الشهادات لمساعدة هؤلاء الأطفال المكسورين، وفي أكتوبر 2023م، أنشأت مجموعة خاصة جديدة على الفيسبوك صفحة بعنوان “أعضاء سابقون في مدرسة بيثارام، ضحايا المؤسسة “، واكتشفت أن هناك طلاب سابقون لا زالوا يتلقون العلاج النفسي من آثار العنف والانتهاكات التي كانوا ضحاياه في المؤسسة، وهم الآن في عمر الخمسين. كنت أسمع شهاداتهم، وأبكي).

يتابع “آلان” قائلاً: (إذا رويت ما حدث في بيُثارام، فلن يصدقني النا، . ويربط حاجته إلى جمع هذه الشهادات بحقيقة أن العديد من الطلاب السابقين انتحروا في تلك الأثناء، ويأسف لأن الجميع ظلوا صامتين: (للأسف، وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن موجودة).

ويقول “انطوان” – الاسم المستعار- والبالغ من العمر الآن 47 عاماً أنه تقدم بشكوى في عام 1999م، ولكن تم رفضها، وكان يتهم  فيها المشرف العام. ويعترف لوكالة الأنباء الفرنسية فرانس برس: (كانت هذه الشكوى كلمتي ضده، ولكن شعرت بالخذلان لأن لا أحد صدقني)،  وكان قد تقدم بشكوى جديدة, خلال الشهر المنصرم، ضد المشرف العلماني الذي لا زال على رأس عمله، ويقول: (لقد تم فصله في الرابع من شباط المنصرم من قبل الإدارة باسم ” المبدأ الاحترازي”).

الصمت كوسيلة

يتذكر دائماً “انطوان” المرة الأولى التي وقع عليه الاعتداء في حمام المشرف، قائلاً بهمس: (كنت طفلاً)،  ومن ثم بدأت الاعتداءات الجنسية تتوالى في المعسكر الكشفي، (كنت أنام في خيمته، كنت في الرابعة عشر من عمري، ولا يزال الأمر مثيراً للجنون)، مؤكداً أنه: (حتى ولو مضى 26 عاماً، أنا مستعد لخوض حرب، وانتظر أن يصدق قصتي أحداً، وأتمنى أن أراه تحت قوس العدالة)، سيما وأنه لا يمكنه أن يستفيد من قانون التقادم، الذي ينص على أن القضية يجب ألا يكون قد مضى عليها أكثر من 30 عاماً بالنسبة للقاصرين، وكذلك بسبب سنه..

ومن جانبه, يروي مارك الطريقة التي كان يتم فيها الاعتداء على الاطفال بأنها نفسها تقريباً  لجميع الضحايا: “عندما تتم معاقبتك، عندما تخرج، عندما تكون العقوبة محددة، يتصل بك المشرف وتذهب إلى مكتبه”. هذا المشرف، الذي لا يزال على قيد الحياة، متورط  في الاعتداء على الكثير من الطلاب، الذين لم يقدموا حتى الآن شكوى مع وجود وقائع موصوفة.”

بينما الطالب “بريس” البالغ من العمر 48، فقد رفع شكواه بأعمال اغتصاب وعنف جرت ما بين الأعوام 1984م و 1991م، على أحد المشرفين السابقين، ووفق اسكوير، هناك 29 دعوى بحق هذا المشرف، وايضاً يدين مدير سابق في المؤسسة، متهم باغتصاب قاصر في عام 1998م، والذي انتحر في روما،  يتذكر “بريس”، والذي لا تخضع شكواه لقانون التقادم: (عندما عرفته، لم يخطر في بالي أن الآخرين يمكنهم أن يتجاوزوا هذا الأمر)، ويستنكر زميلهم “كريستوف ماريجان”، البالغ من العمر 54 عاماً، ما يدعوه ب” نظام الحيوانات المفترسة ” الممتد لحوالي 35 عاماً، ويتذكر الأعوام التي أمضاها في تلك المدرسة الممتدة من 1980م إلى 1987م، وكان طالباً في المدرسة الداخلية ” الصمت كوسيلة”، كان يتوجب عليهم السكوت كل الوقت، سواء في المهاجع، وقت الدراسة، في الحمامات، حيث كان الضحايا يعيشون محنتهم وعذابهم بمفردهم،  وبالنسبة له, بدأ العنف الجسدي ( منذ الليالي الأولى، وكان له من العمر حينذاك عشرة أعوام، فقد عانى من عقوبة “الشرفة”، وتتمثل في وضع الطالب في الخارج بملابسه الداخلية،  وأحياناً في منتصف الليالي الشتوية الباردة، والانتظار ساعات حتى يتم الصفح عنهم).

قضية التحرشات الجنسية في الكنائس

وقدرت اللجنة المستقلة المعنية بالاعتداء الجنسي في الكنيسة (Ciase)، برئاسة “جان مارك سوفي”، في تقرير ضخم تم تقديمه في عام 2022م، أنه منذ خمسينيات القرن الماضي لغاية عام 2020م، وقع 330 ألف شخص ضحايا للعنف الجنسي في الكنائس الكاثوليكية، وما يصل نسبته 40٪ من أعمال العنف هذه التي ارتكبها الكهنة والرهبان بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تم ارتكابها في المدارس، حسبما ذكر جان مارك سوفي إلى الأمانة العامة للتعليم الكاثوليكي.

من المقرر أن يتم تقديم هذه الشكاوى أيضًا إلى لجنة الاعتراف والتعويض في الكنيسة، والتي تم إنشاؤها من أجل ضحايا العنف الجنسي في الكنيسة في عام 2017م، حين أجرت أسقفية بايون تحقيقًا قانونياً، بعد اتهام كاهناً بالعنف الجنسي  ضد طالب سابق، كان يبلغ من العمر 10 سنوات عندما حدث الاعتداء، وخلص تحقيق الكنيسة إلى رفض القضية، لأن الكاهن كان قد توفي في العام 2000م.

تنويه:

اكتفيت بهذا القدر من الشهادات، وهناك الكثير منها ايضاً على الصفحة المُشار إليها على الفيسبوك، ولا يزال ينضم إليها أعداد جديدة، وثمة شهادات فيها تفصيل دقيق لما كانوا يتعرضون له من اعتداءات جنسية أو عقوبات جسدية، حتى إن أحدهم يقارن بين حياته بالكلية العسكرية التي التحق بها، وحياته في تلك المؤسسة، ويخلص إلى أن الكلية أرحم

بالكثير مما كان يعيشه في  المدرسة تلك.

*المصادر:

وكالة الصحافة الفرنسية.

موقع Franceinfo – وموقع Mediapart

صحيفة Le monde و Liberation La و La République des Pyrénées

ترجمة وإعداد: دلال ابراهيم.