ظاهرة الباشا بازي في أفغانستان ج2: عن العجز والخوف أمام الحزن الصامت في عيون هؤلاء الأطفال

يتحدث مراسل وكالة الأنباء الفرنسية “انوج شوبرا” في تقريره الذي حصد عنه جائزة “سوبا”، أحد أرفع الجوائز التي تمنح في آسيا للصحافة الآسيوية، عن تورط أجهزة الأمن في انتشار ظاهرة الباشبازي، وخطورة الحديث والتحقيق في هذا المجال. وهنا بعض مما جاء في تقريره:

حرب وقودها الأطفال

ألهمتني هذه الصورة (صورة لجندي أفغاني يُطلق النار على ما يبدو على جثة أحد الانتحاريين المشوهة، حيث عكس هذا المشهد السريالي وحده، رد الفعل الغاضب تجاه الانفجار الجديد للعنف الهمجي، وأكثر ما أذهلني فيها هو العمر الفتي للشاب الانتحاري)، للعمل على إعداد هذا التقرير في قندهار، عن ملاكم مبتدئ كان مرشحاً للقيام بالتفجير الانتحاري، وتم القبض عليه حياً قبل ارتكابه الفعل، وقد شكلت قصته مشهداً مثيراً للقلق إلى حد ما، حول الكيفية التي تحوّل بها الصراع في أفغانستان بشكل خبيث إلى حرب كامنة ضد أطفالها، مع ارتكاب جرائم فظيعة ضدهم من جانب كافة الأطراف.

لكنني اكتشفت ما هو أسوأ من ذلك: كيف كان يستثمر بعض ضباط الشرطة في أوروزغان (إقليم جنوبي مضطرب بشكل خاص)، في تقليد العبودية الجنسية للفتية، وكيف كانت تستغل حركة طالبان هذه الممارسة لتأليب الضحايا على جلاديهم.

ممارسة “باشا بازي” – حرفياً: “اللعب مع الأولاد” باللغة الدارية – هو تقليد عمره قرون في أفغانستان، وعندما اطلعت على هذه القصة لأول مرة عبر مصدر مطلع في أوروزغان، لم أصدق ذلك: هل يمكننا أن نتخيل تسلل طالبان إلى صفوف الشرطة الأفغانية – بتمويل من المساعدات الغربية – من خلال استغلال شهية قادتها للشبان الفتية؟

صحيح أن هذه القضية  موجودة  عبر إيحاءات منذ العصور الوسطى… ومع ذلك، بمجرد أن باشرت في البحث فيها، أكّدتها لي العديد من المصادر.

لم تكن الكتابة حول هذا الموضوع خالية من المخاطر، لأن ممارسة الباشا بازي من قبل ضباط الشرطة المحليين ذوي النفوذ، نادراً ما يتم معاقبتهم عليها، ولإخفاء حقيقة تحقيقي أيضاً، تظاهرت لمدة شهرين بالاهتمام بقصص أخرى في أوروزغان، أثناء إجراء مقابلاتي وأبحاثي سراً.

انوج شوبرا: لقد أذهلني مدى سوء المعاملة

في كل مرة كنت أعود فيها إلى مراجعة تدويناتي وملاحظاتي عن القضية، كان يدهشني حجم الإساءة، تقريباً يمتلك كل مركز من مراكز الشرطة البالغ عددها 370 والمتوزعة في أوروزغان، سواء كانت الشرطة المحلية أو الوطنية،  عبد صغير  “باشا” خاص به، وأحياناً يصل عددهم إلى أربعة.

 يرفض بعض القادة في الشرطة الانضمام إلى وظيفة في منطقة نائية، ما لم يتمكنوا من الاعتماد على “الباشا”. ويهدد آخرون بالتخلي عن مناصبهم إذا تم إبعاد “الباشا” عنهم، ويعد “الباشا” أيضاً مصدراً للخلافات، وحتى المشاجرات أو تبادل إطلاق النار بين القادة، وقال لي أحد القضاة الإقليميين: (إن حركة طالبان تعلم جيداً أن هذا الإدمان يتجاوز إدمان الأفيون).

لقد صدمني هذا الواقع، ولكن بقيت إحدى الصور على وجه الخصوص محفورة على شبكية عيني: تلك النظرة الحزينة الغارقة لأحد العبيد الصغار، والذين صادفتهم في أعماق أوروزغان في قرية دهجوزه.

عند نقطة التفتيش، وعند مدخل مزرعة خشخاش مزهرة، بين قفص العصافير وكلب مسعور، جلس الصبي في الزاوية، وعيناه مكحلتان، وشعره المجعد مصبوغ بالأشقر، يقدم الشاي لضيوف سيده القائد، وهو صامت لا ينبس بأي كلمة، والقائد  بدوره يمتدح علانية “جمال الباشا”.

لم يبذل القائد، وهو رجل ضخم في منتصف العمر، أي جهد لإخفاء حقيقة أنه كان يحتجز الصبي بالقوة لمدة عامين، ولكن لهجته المرحة والمتعجرفة، جعلت معدتي تتقلب.

كنت أودّ التحدث إلى الصبي، لكن القائد كان يراقبه كما يراقب الصقر فريسته، لذلك حرصت على عدم زيادة ارتباك الوضع، لكن من بين كل النظرات الحزينة التي واجهتها طوال مسيرتي المهنية، لم أر في أي منها  هذه الدرجة من العزلة والوحدة. شكوى صامتة لصرخة حزن، وقهر مكبوتة.

هناك العديد من الضحايا الصامتين الآخرين من الباشا بازي

ثمة العديد من الضحايا الصامتين الآخرين من الباشا بازي، وعادة ما يكون خاطفوهم أشخاص نافذين للغاية، لدرجة أنهم لا يتسامحون مع الرجال الآخرين الذين يتحدثون إليهم، وضمن هذا السياق، اعترف لي أحد المديرين في الشرطة قائلاً: (يأتي الآباء الفقراء إلينا أحيانًا قائلين: لقد سرقوا ضباط الشرطة الذين يستغلون الأطفال جنسياً أطفالنا، افعلوا شيئًا ما، أوقفوهم)،  لكنه هو نفسه كان خائفاً جداً من إخباري بهذا الأمر، لدرجة أنه همس لي في مكتبه: (هل تعتقد حقاً أن هؤلاء الضباط سيتركوننا على قيد الحياة، إذا حققنا في جرائمهم؟).

لكن ربما أسوأ ما اكتشفته، هو أن العديد من الآباء يتجنبون إلباس أبنائهم ملابس جيدة للغاية، حتى لا يجذبوا إليهم انظار المغرمين بالأولاد الصغار… هذا الخوف وحده يوضح حجم استشراء سلوك هؤلاء المفترسين في المجتمع، مثلما يبين أيضاً مدى الحرية التي يتمتعون بها في اختيار ضحاياهم، وأولى أهدافهم هم “الباشا بريش” – الأولاد بدون لحية – ولذلك وعلى سبيل التندر الشائع بين الشباب، كانت الإشارة إلى أن الخروج بدون لحية، يُعرض الشاب نفسه للخطر.

الأمر المستغرب، أن ممارسة الباشا بازي لا تعتبر أبداً بمثابة مثلية جنسية، أو أنها شيطانية تماماً وهي محظورة في الإسلام، أو حتى لا تعتبر اعتداء جنسي على الأطفال،  بينما يُفضل الأمريكيون الحديث عنها على أنها شكل من أشكال “الاغتصاب التقليدي”، حتى أنه يُعتبر أنه أمرٌ تافهٌ للغاية، لدرجة أنه خلال تقريري، سألني رجل مازحاً إذا كنت أريد “صبيًا لهذه الليلة”.

في ظل هذه الظروف، يُمكننا أن نفهم بسهولة كيف تمكنت حركة طالبان، التي حظرت “باشا بازي” عندما كانت في السلطة من عام 1996م إلى عام 2001م، من تجنيد هؤلاء الصبية لشن هجمات ضد الشرطة، وفي كثير من الحالات، يكون قتل المغتصب هو السبيل الوحيد للخروج من هذه العبودية، بينما الأطفال يجدون أنفسهم مستغلين بشكل مضاعف، من قبل خاطفيهم ثم من قبل طالبان التي تحولهم إلى قتلة.

رمي حجر في المياه الراكدة

الجدير بالذكر، إن تقاريري الحصرية هذه، دفعت الرئيس الأفغاني “أشرف غني” إلى إصدار أمر بإجراء تحقيق شامل في هذه المسألة، ووعد بمعاقبة المسؤولين عن ذلك ضمن صفوف القوات الأمنية، كما أثيرت ردود فعل دولية عديدة، حيث طالب بعض المراقبين بأن تكون المساعدات الخارجية الضرورية للبلاد، مشروطة بجهود الحكومة لوضع حد لهذه الانتهاكات.

كما دعا كثيرون إلى إجراء إصلاحات داخل قوات الشرطة، وأدانوا حلف شمال الأطلسي الذي يعزّز، من خلال الدعم الذي يقدمه لهم، قوة هؤلاء المفترسين الجنسيين داخل القوات الأفغانية، معتبرين إياهم “أقل شرا” من حركة طالبان التي يقاتلونها.

لكن هناك سؤال أساسي لا يزال غائباً عن المناقشة: ما هي الجهود التي يجري القيام بها، إن كان هناك أي شيء، لإنقاذ الأطفال الأسرى في هذه المواقع النائية والخطرة؟

لقد طرحت هذا السؤال على العديد من المديرين، ولكنني لم أتلقَ سوى إجابات مراوغة، ولا زالت تفيد التقارير عن وجود عدة مئات من الأطفال محتجزين كرهائن جنسيين في أوروزغان وحدها، و العدالة الحقيقية، العدالة الوحيدة، هي إطلاق سراحهم في أسرع وقت ممكن، وإسكات هذه الصرخة  المكبوتة في أعينهم.

*المصدر:

وكالة الأنباء الفرنسية في كابول، مترجم عن تقرير مراسل الوكالة.

*ترجمة وإعداد: دلال ابراهيم.