الفيلم الوثائقي “اللاعبة أ” يُبرز الوجه القبيح لرياضة الجمباز الأمريكية

*انتهاك حقوق الأطفال والناشئين وسلبهم طفولتهم بقسوة

(مارست رياضة الجمباز منذ كنت بعمر ثلاثة سنوات، فقد كنت أتسلق سريري دوماً، وأتسلق أثاث المنزل وكل ما فيه، ومن ثم أودعني والداي ببيئة أكثر أمناً، حيث توجد الحصائر، والمدرِبون وأشياء من هذا القبيل) *“ماغي نيكولز” لاعبة جمباز في المنتخب الأولمبي الأميركي

هكذا كانت بداية الفيلم الوثائقي “Athlete A” /اللاعبة (أ)،  الذي تمحور حول فضيحة الاتحاد الرياضي الأميركي لجمباز السيدات، والفيلم من إنتاج نتفليكس، عام 2020م، ومن إخراج كلٍ من “بوني كوهين”، و”جون شينك”.

قصة الفيلم التي تبدأ بكلام اللاعبة المذكورة، هي قصة قضية إنسانية وأخلاقية، وسردية لمٌعاناة طويلة عاشتها عدد من اللاعبات، وقضية رأي عام شغلت الرأي العام الأمريكي لسنوات، وما كان لهذه القضية أن تُكشف، ولا للعدالة أن تأخذ مجراها، لولا متابعة مراسلي صحيفة “إنديانابوليس ستار”، الذين كشفوا قصة إساءة انتهاكات طبيب اتحاد الجمباز الأمريكي “لاري نصار” بحق اللاعبات، كما كشفوا انتهاكات عدد كبير من المدربين، وجريمة إدارة الاتحاد الأمريكي للجمباز ممثلة بمدير الاتحاد وعدد من المسؤولين، بالتستر على الجرائم، إضافة إلى تواطىء وإهمال مكتب التحقيق الفيدرالي.

يجعل الفيلم من قصة لاعبة الجمباز “ماغي نيكولز”، مدخلاً ومحوراً لرواية الأحداث،  لسرد ما جرى، مع حوالي 500 لاعبة، وكيف تم تجاهل الشكاوى، وكيف تواطىء الجميع على استمرار معاناة الطفلات اللاعبات، في حين دُمرت أحلام وطموحات عدد كبير منهن.

من الفيلم: اللاعبة”ماغي نيكولز”

يُمكننا من عبارة اللاعبة المذكورة سابقاً، أن نفهم مدى الخطر الذي يمكن أن يحصل داخل المنشآت الرياضية، فحرص والديها على أمنها وسلامتها الجسدية، دفعهما إلى ضمها للاتحاد الرياضي، والذي من المفترض أنه لا يؤمن فقط الحماية والرعاية الجسدية من الإصابات، بل كذلك الحماية النفسية العامة، ومن ضمنها عدم التعرض للاعتداء الجنسي.

 لم يقتصر إهمال الإدارة لسلامة وأمن الفتيات، بل تجلّت سوء إدارتهم وفسادها أيضاً في تسترهم على المجرمين، ففي عام 2017 م، ضجّت الصحف الأميركية والعالمية، بما سمي بالفضيحة التي لطخت وجه اتحاد الرياضة الأميركي لجمباز السيدات، فلم يكن المجرم واحد فقط على الرغم من تفرّد الطبيب “لاري نصار”، بالأفعال المشينة، والتي كان يمارسها على اللاعبات القاصرات، بل كان كذلك من مدربين، وبمشاركة الإدارة بغض النظر، وتجاهل كل شكاوى اللاعبات على حالات التحرش التي تعرضن لها، فكان تركيز الإدارة كلّه متركز فقط على جمع الأموال والميداليات.

المتحرش الأبرز “لاري نصار”، شغل منصب طبيب الفريق في اتحاد الجمباز الأمريكي للسيدات لمدة 29 عاماً، وكان حينها طبيباً في جامعة ولاية “ميشيغان”. وكان شخصاً بارزاً في المجتمع، ومؤسس لمؤسسة للأطفال المتوحدين.

 كان ل”نصار” أسلوباً تقليدياً لكسب ثقة الفتيات، فكان يجلب لهن الحلوى والطعام خلسة -الذي كان محرّم عليهن للمحافظة على وزن معين- ويقدمها لهن أثناء قيامه بمعالجتهن لكسب ثقتهن، وعُرف عن “نصار” أنه مراوغ ويجيد الكلام والإقناع، ويبدو أنه جريء، ويثق بنفسه بأنه يجيد التضليل، فمن ضمن شهادات إحدى ضحاياه، أنها عندما كانت في سن الخامسة عشر عندما تعرضت لإصابة، وبينما كان الطبيب “نصار” يجري العلاج لها، تحرش بها على الرغم من وجود أمها معها، فقد وقف بينها وبين أمها لحجب الرؤية، وكان يعالج مكان الإصابة بيد، ويقوم بالتحرش بها بيده الأخرى، وظنت الطفلة أن أمها تشاهد ما يحدث، وأن ما يقوم به هو أمر طبيعي، وتضيف: أنها لم تعلم إلا بعد عدة شهور أن أمها لم تكن ترى المشهد، أو على دراية بما يحدث، إذ كانت الرؤية محجوبة عنها، بسبب طريقة وقوفه التي تعمّد بها حجب الرؤية عن الأم، ولأنها لم تتمكن من التعايش مع ما مرت به، وبعد مرور بضع سنوات، قرّرت أن تذهب إلى المدربة الرئيسية في منشأة الجمباز التي تدربت فيها، لإخبارها بحالة التحرش التي تعرضت لها من قبل الطبيب “لاري نصار” بحجة الفحص الطبي، ولكن الرد كان: “لا أحد غيرك يقول هذا الكلام”، وحذّرتها الرئيسة من التحدث بهذا الأمر بسبب ما أسمته ب “العواقب”، وتضيف الضحية: (إن هذا الجواب عزّز الفكرة لديها، بأنه لا يمكنها فعل شيء حينها).

فرضت إدارة اتحاد الولايات المتحدة الأمريكية للجمباز نظاماً صارماً على اللاعبات، تحديداً بعد تولي المدربان الرومانيان “بيلا” و “مارثا كارولي” قيادة التدريب للفريق، فالبيئة التي خلقها المدربان في الصالة، كانت مبنية على الخوف والترهيب والإسكات، وهذه الممارسات هي استلاب وقمع للشخصية وللثقة، وبهذا الأسلوب سواء بدراية منهم أو بغيرها، فقد جعلوا من الفتيات لقمة سائغة وسهلة للطبيب المجرم “لاري نصار” وغيره.

من الفيلم: “جينيفر سي”، بطلة الجمباز الوطنية للولايات المتحدة الأمريكية عام 1986

تقول إحدى اللاعبات السابقات، أنها أصيبت بالزكام، وبقيت تستفرغ لمدة خمسة أيام، ولكن المدربين لم تهمهم صحتها حينها، بل كانوا يريدون إيجاد حل سريع فقط لنقص الوزن لديها، والذي يمكن أن يؤثر على مشاركاتها الرياضية، وهذا أحد أنواع العنف النفسي، الذي يمكن أن يتعرض له الطفل، وربما يكون سبباً ومفتاحاً، لتعرضه لأنواع أخرى من الاعتداءات، ومنها التحرش الجنسي، ولم يقتصر الأمر على العنف النفسي فقط، بل كانت حصص التدريب تصل لسبعة ساعات يومياً، ويمنع تواجد الأهالي أثناء فترة التدريب هذه.

 يٌعلق والد الضحية “ماغي نيكولز” على هذا النظام: (اضطررنا أن نثق، ونؤمن بنظامهم الصارم، وقد يظن المرء أنهم سيحافظون على سلامة اللاعبات، وخصوصاً حين لا يسمح لنا بالدخول، لكنني لم أكن أعرف شيئاً عن “نصار”، ولم أفكر حتى بطرح أسئلة كهذه)، وبهذا نعلم جيداً مدى المخاطر الكثيرة الممكنة، وأنه لا ثقة مطلقة نمنحها لأحد على أطفالنا.

*يوجه الصحفي سؤالاً إلى رئيس اتحاد الجمباز “ستيف بيني” يقول فيه: (إن تلقيت شكوى سوء سلوك جنسي، سواء كان ذلك من قبل عضو محترف، أو أي شخص لديك عضوية في الاتحاد، فهل توصلها إلى السلطات المحلية؟)، فيجيب: (كلا، لا توصل الشكاوى)، وكان قد برر ذلك، بأنه تبنى سياسة سلفه في رفض الشكاوى، على أنها أقوال غير صحيحة، إلا إذا كانت موقعة من قبل الضحية أو أهلها!

رئيس الاتحاد الأمريكي للجمباز، السابق “ستيف بيني”

* المجرم الأول “لاري نصار”، في مقابلة بث صوتي: (إننا نحمي الرياضيين لدينا، ليس جسدياً فحسب، بل ذهنياً حتى، علينا أن نحمي الرياضيين، وإن أخفقت مرة، وإن أقدمت على فعل يخون ثقتهم، هذا يعني أنه انتهى أمرك، لاعبو الجمباز في المقام الأول).

*بمناسبة أخرى “ستيف بيني”، رئيس اتحاد الجمباز يصرّح: (إن المنظمة ملتزمة بتوفير “بيئة آمنة”، ووجه اتهامه للصحافة، لعدم نقل الصورة بشكل دقيق).

نلاحظ من تصريحات وإجابات الطبيب المجرم، ومعه رئيس الاتحاد المتستّر الأول عن كل الشكاوى، أنهما على علم كامل بما يقع عليهما من مسؤولية بحماية اللاعبات، من أي نوع من أنواع العنف أو الاعتداء، ولكن كل ما قاما به كان عكس هذه التصريحات تماماً، وبعد بدء التحقيقات، تم الكشف عن ملفات شكاوى في اتحاد الجمباز ضد (54) مدرباً، حتى تلك التي كانت موقعة من قبل الضحية أو أهلها، جميعها تم رميها بالأدراج، وواحدة من هذه البلاغات كانت رفع قضايا إلى إدارة الاتحاد الرياضي للجمباز عن وجود مدرب متحرش، اكتفى الاتحاد بنقله إلى صالة أخرى فقط، رغم كل البلاغات التحذيرية بشأن سلوكه!

من المؤسف أننا دائماً ما نلاحظ، أنه في قضايا التحرش يتم التستر على المشكلة، وغالباً ما تُلام الضحية، وقد يصل الأمر إلى تعنيفها نفسياً وجسدياً، ويبدو أن هذا الفعل ليس محصوراً ببيئة اجتماعية واحدة، ولا منطقة جغرافية معينة، ففي شهادة السيدة “راشيل”، وهي إحدى ضحايا التحرش الجنسي من قبل الطبيب “نصار” تقول: (لم أكن على دراية بكثير من الأمور حين كنت في سن الخامسة عشر، لكن ما كنت متأكدة منه أن ضحايا الاعتداء لم يتلقيْن المعاملة المثلى، لقد سخروا منهن وجرى استجوابهن، وألقي باللوم عليهن، فشعرن بالخزي، وهذا ما يلحق بهن ضرراً جسيماً فيما يتعلق بمرحلة الشفاء، أتمنى لو كان بوسعي التعامل مع ذلك قبل ستة عشر عاماً، لا أظن أنه كان بوسعي ذلك، لكنني أستطيع الآن)، وهذا التصريح أيضاً الذي أدلت به الضحية، يؤكّد ضرورة العمل على التوعية المبكرة للأطفال، لتفادي مثل هذه الجرائم، والتعامل معها بشكل واعٍ من قبل الطفل، فصمام الأمان الأول لعدم الوقوع بمثل هذه الحالات، والتي من الممكن أن ينجُ الطفل منها، هو وعي أسرته، ووعيه بجميع التصرفات التي قد تشكل خطراً وانتهاكاً له وعليه، فحماية الطفل مسؤولية عامة، تبدأ من الأسرة، ويشارك فيها المجتمع  كلّه، وكل مكان يتواجد فيه الطفل، يتحمل المسؤولون عن هذا المكان أو المنشأة مسؤولية حمايته بشكل كامل، ولا مجال للتهاون أو اللا مبالاة بأمن الأطفال ومستقبلهم.

  • يقول والد الضحية “ماغي”: (إن اتحاد الولايات المتحدة للجمباز، قد حرم “ماغي” حلمها في الأولمبياد، كان الأمر موجعاً وعنيفاً بكل تفاصيله).

يسأله الصحفي: (صف لنا كيف شاهدت العدالة وهي تأخذ مجراها في التصوير البطيء؟).

والد “ماغي”، وعيونه ممتلئة بالدموع، مع ضحكة بسيطة ساخرة، يجيب: (آمل أنها العدالة، آمل أن تكون كذلك).

في قاعة المحكمة، واجه الضحايا “نصار”، وشرحن ما تعرضن له، باستناء “ماغي”، لم تحضر بسبب انشغالها بامتحانات الجامعة، ولكنها أرسلت خطاباً، قرأته والدتها في قاعة المحكمة، قالت فيه:

(حتى هذه اللحظة عُرف عني باسم “Athlete A”، من قبل اتحاد الجمباز الأمريكي، والمجلس الأولمبي الأمريكي، وجامعة ولاية ميتشغان، وأريد للجميع أن يعرفوا أنه لم يعتد على “Athlete A”، لقد اعتدى على ماغي نيكولز).

د.”لاري نصار” خلال إحدى جلسات محاكمته
  • أكثر من 500 شكوى قدمت ضد “نصار”، تسعة منها كانت من لاعبات أولمبيات، وعند تفتيش منزله، وجدت الشرطة في حاوية القمامة أمام منزله قبل نقلها، عدد كبير من الأقراض المدمجة، مرّقمة باسمه، وعند فحصها، تبيّن احتوائها على عدد لا نهائي من الصور الإباحية للأطفال، ومشاهد تحرش واعتداء على الأطفال.
  • تم توجيه ثلاث تهم بالتحرش الجنسي من الدرجة الأولى للطبيب “لاري نصار”، بفتاة أصغر من عمر 13 عاماً، وبتوقيعه على تسوية باعتراف بالتهم المنسوبة إليه التي تخص التحرش والاعتداء على القاصرات، تم إسقاط تهمة حيازة مواد إباحية خاصة بالأطفال.
  • قانون ولاية ميشيغان ينص على ميثاق، أنه لو توغل الجاني في جسد من هي تحت 13 سنة، فسيتلقى إلزامياً حكماً بالسجن لمدة 25 عاماً كحد أدنى.

تمت محاكمة “نصار” بجريمتين، وحُكم عليه بالسجن لمدة 60 عاماً، يقضيها الآن في أحد السجون الفيدرالية في الولايات المتحدة.

مثلما يُبرز الفيلم معاناة الضحايا، فإنه بُضيء أيضاً على أهمية العمل الصحفي، الأخلاقي، والمهني والنزيه، ومسؤولية الصحافة كسلطة حقيقية، يخاف منها المجرمون والفاسدون، كسلطة تُمثل المجتمع وتدافع عن قضاياه، وتلعب أدوار هامة في تحقيق العدالة والوقوف بجانب المظومين، وكيف يُمكن أن يكون الصحفي المهني بشكل فعلي: هو صوت من لاصوت لهم، أو صوت من يتم تغييّب أصواتهم.

*المصادر:

-فيلم (اللاعبة أ) على نتفليكس.

-الموقع الإلكتروني لصحيفة نيويروك تايمز، 24 حزيران/ يونيو- 2020م:  

https://www.nytimes.com

*إعداد: محمود عبود، محرر أول في الفريق الإعلامي لمؤسسة نداء.