الطفل المتحرّش والمُعتدي… أسباب وحلول مُقترحة

تُشير الدراسات أن نسبة 40% من حالات التحرش والاعتداء الجنسي التي يتعرض لها الأطفال، يكون الجناة فيها أطفال مثلهم من الأكبر سناً، أو الأكثر قوة وقدرة على السيطرة، وبينما نجد آلاف الدراسات عن تحرّش البالغين بالأطفال، فإن الدراسات التي تناولت تحرّش الأطفال بعضهم ببعض، ما زالت قليلة جداً، وخاصة في البلاد العربية.

من هم الأطفال المتحرشين، وما هو أسلوبهم في التحرش ومحاولة الاعتداء؟

حسب الإحصائيات والدراسات، إن أكثر الأطفال المتحرشين يندرجون في الفئة العمرية ما بين 12 إلى 14 سنة، وهي مرحلة الطفولة المتأخرّة، وبداية مرحلة المراهقة، وغالباً هي مرحلة البلوغ الجنسي وسطياً بالنسبة للجنسين، في حين يوجد حالات تحرّش لدى أعمار مختلفة، لكنها أقل شيوعاً عن أطفال هذه المرحلة العمرية، كما أن نسبة المتحرشين والمعتدين من الأطفال الذكور أكبر من نسبة الإناث، كون الأنثى تخضع للحماية والرقابة السلوكية، بشكل مُضاعف أكثر من الذكور في غالبية المجتمعات.  

يرى المتخصون إن أساليب الأطفال، لا تختلف عن البالغين كثيراً، في استدراج الطفل الضحية، من تهديد وترهيب حيناً، وترغيب وإغواء حيناً آخر، بينما تنتشر بعض السلوكات ذات الطالع الجنسي بين الأطفال في هذه المرحلة العمرية، أكثر مما نجدها لدى البالغين، من مثل استخدام الألفاظ الجنسية، والصور والأفلام، ومحاولة تعرية الضحية، وسلوكات الملامسة والتقبيل، وغيرها من أساليب تواصل جسدي، بدون اتصال جنسي كامل.

كما تُبيّن الدراسات أن غالبية الأطفال المتحرشين، أكثر قوة ونفوذ من ضحاياهم، ويمارسون حالة من الإكراه العاطفي، والإخضاع الجسدي، ويوجد فارق واضح بينهم وبين ضحاياهم من حيث الإدراك الجنسي وقوة التأثير، والقوة البدنية العائدة لفوارق في السن أو مستوى النمو، بحكم طبيعة المرحلة العمرية التي هم فيها، والتي تتسم بتغيّيرات جسدية، ونفسية، وعقلية تصبغ فترة الانتقال من الطفولة إلى المراهقة، ثم إلى الشباب.

غالباً ما تكون المدرسة، هي الفضاء المكاني الأكثر تكراراً لتعرّض الطفل للتحرش من قبل طفل آخر، إضافة إلى الأندية الرياضية، والأماكن المٌغلقة في الحدائق وأماكن الترفيه، وأحياناً منزل العائلة عندما يكون الضحية من الأقارب.

إذا ما عدنا إلى تعريف التحرش والاعتداء الجنسي، وهدف المتحرّش والمعتدي، فإن كل التعريفات تقول أن هدف الإشباع الجنسي يوجد عند المعتدي والمتحرش، عندما يكون هناك فوارق عمرية بينه وبين الطفل بقدر خمس سنوات، ولذلك يرى العديد من المتخصّصين إن الممارسات ذات الطابع الجنسي في المدارس الابتدائية، والفضاءات التي تجمع الأطفال كالأندية وغيرها، لا تدخل ضمن مسمى “الاستغلال الجنسي”، أو “التحرشات الجنسية”، والطفل المتحرش أو المعتدي، هو ضحية أيضاً، لأن الدوافع وراء سلوكه مختلفة عن دوافع المعتدين البالغين، التي يُمكن اعتبارها دوافع إجرامية ولا أخلاقية.

ما الأسباب الكامنة وراء هذا السلوك لدى بعض الأطفال والناشئين، وكيف يُربى طفل متحرّش؟

لا يُمكن محاكمة سلوك الطفل المتحرش أو المعتدي، بالطريقة ذاتها التي يُحاكم فيها سلوك البالغ، فتفسير سلوك التحرش والاعتداء عند الطفل، له أكثر من بُعد ودلالة، ينبغي البحث وراءها، ومعالجة الأسباب التي أدّت لهذا السلوك، وممكن فعلياً التخلص منه إذا كانت الأسرة متفهّمة، وعلى درجة من الوعي لحماية طفلها من مستقبل مجهول.

*الطفولة المُبكرة وسلوك الوالدين والأسرة

بالعودة إلى أسباب سلوك التحرش والاعتداء لدى الطفل، لابدّ من العودة إلى طفولته المُبكرة، ومراحل نموه، والبحث في حاجات النمو غير المٌشبعة لديه، والبيئة المحيطة التي عاش فيها، فوجود تاريخ من الإساءة الجسدية أو العاطفية، وتعرض الطفل للإهمال وغياب الحماية والتوعية، كل هذا قد يخلق لدى الطفل دوافع سلوكية قد تذهب به باتجاه الاعتداء والتحرش، وعلى العكس أيضاُ، فإن سلوكات الحماية الزائدة للطفل، وتدلّيله والمبالغة في تنفيذ رغباته، تأتي بنتائج شبيهة.  

إن شعور الطفل بالنقص والنظرة الدونية لذاته، كنتيجة حتمية لتربيته الخاطئة، تدفعه، لتوكيد ذاته وتعزيز ثقته بنفسه، من خلال السيطرة على الأطفال الأضعف منه، كما أن الطفل الذي تعرض للإساءات وعدم إشباع الحاجات الجسدية، والعاطفية، والمعرفية، قد ينخرط بهكذا سلوك بسهولة، مثلما قد ينخرط بها الطفل المدلّل والذي يمتلك شعور بالتفوق والتميّز، وأنه على الجميع الخضوع لرغباته، ومن هذا المُنطلق، يرى المختصون انتفاء وجود الدافع الجنسي والرغبة في اللذة الجنسية خلف سلوك هؤلاء الأطفال، وربما الأمر لا يتعدى أن يكون مشكلة من مشكلات النمو، والتي لا ينبغي إهمالها، ومن الواجب معالجتها على وجه السرعة.  

كما أن العديد من السلوكات ذات الطابع الجنسي، قد تبدأ بتنمّر عادي يمارسه الطفل على أخوته أو أقرانه، والسكوت على هذا التنمّر وتمادي الطفل فيه، يجعله يتجاوزه إلى ما هو أبعد، وخاصة في المدرسة، إذ يلجأ بعض الأطفال الأكبر سناً إلى إذلال طفل ما وإهانته، بالإساءة إليه جسدياً، وخاصة بإساءة ذات طابع جنسي تثير سخرية الآخرين منه، من مثل إسماعه ألفاظ جنسية، إلقاء تهم جنسية عليه، محاولة تعريته ونزع ملابسه السفلية، اقتحام خلوته في غرف حمامات المدرسة…. الخ.

*تعرض الطفل للإساءة والاستغلال الجنسي خلال طفولته المبكرة

يتعرض بعض الأطفال للتحرش والاستغلال الجنسي بأشكال مختلفة، خلال طفولتهم المُبكرة، وعندما لا يتم الحديث عن خبراتهم تلك للأسرة، ولا يتم علاج آثار ما تعرضوا له، فمن الممكن أن يصبح بعضهم متحرشين ومعتدين، فالطفل المُعتدى عليه قد يتماهى مع سلوك المُعتدي ويعالج شعوره بالنقص، أو ينتقم لنفسه بممارسة السلوك ذاته الذي تمت ممارسته عليه، ولكن هذا لا يعني أن كل طفل تعرض لهذه الخبرة ممكن أن يُصبح متحرش أو معتدي، لكن هذه الخبرة ممكن تصريفها بأكثر من وجه، حسب بيئة الطفل ومحيطه وتعامل أسرته، لذلك من واجب الأسرة التقرّب من أبنائها والاطلاع على تفاصيل حياتهم الحميمة، ومعرفة ما يتعرضون له من معاناة، والعمل على علاج أسبابها، واحتضان الطفل وحمايته حتى من نفسه، ما يُمكن أن يكون عليه مستقبلاً.

*أثر الأقران والأصدقاء والرفاق

يمنح الطفل أهمية كبيرة لأقرانه بعد عمر ال12 سنة، ويُصبح تأثيرهم عليه كبيراً جداً، بحيث يتفوق على تأثير العائلة، لذلك يتماهى الطفل مع سلوكات أقرانه، ويقبل كل ما هم عليه، من أجل ألا يتعرض للنبذ منهم، ويتجنب خسارتهم، لذلك إذا كان أحد الأقران أو مجموعة منهم يقومون بالتنمّر على غيرهم، ويسلكون سلوكات ذات طابع جنسي، فإنه يشاركهم هذا الفعل، حتى لو كان غير مقتنع به، ويقبل أن يكون كما هم عليه، كي لا يتعرض للسخرية منهم والاستهزاء، ولوصفه بكونه جبان أو غير صاحب خبرة، لذلك يجب على الأسرة معرفة أقران أبنائها، وطبيعة علاقته بهم، وتعليمه الاستقلالية والحفاظ على نفسه، وترك مسافة بينه وبين الآخرين، وعدم الانجرار وراء ما يريدونه.

*سلوك بدافع الفضول وحب المعرفة والتجريب

ينجر الطفل وراء الكثير من السلوكات بدوافع حب المعرفة، وعلى سبيل التجريب، وعيش المغامرات التي سيروي عنها لأقرانه كما سمع منهم عن مغامراته، إضافة لإشباع دوافع الفضول والبحث عن ما وراء الأشياء، وتحت هذه المبررات قد ينخرط الكثير من الأطفال بسلوكات ذات طابع جنسي، من باب التعرّف على هكذا تجارب، ومشاركة الآخرين من أقرانه بها، ولا تُثير هذه السلوكات أي مشكلة كبيرة، عندما تكون عابرة، وآنية، ولكن يجب دق ناقوس الخطر عندما تُصبح مكررة بشكل متواتر، وتؤثر على طبيعة شخصية الطفل، وتغير من رؤيته لعلاقاته بالآخرين، فكثير من الأطفال يمارسون سلوك التلصص، ومشاهدة الصور الإياحية، وأفلام الإثارة الجنسية، بدافع الفضول وحب المعرفة، وقيامهم بسلوك ما ضمن هذا السياق لا يعدو فكرة “الولدنة” والشغب الطفولي والشبابي الطائش، ولكن عدم ترك الطفل لتلك السلوكات وقيامه بالتحرش، ومحاولات الاعتداء بشكل متكرر، هو ما يجب التوقف عنده.

على الأسرة إشباع الفضول المعرفي عند الطفل، والإجابة عن كل أسئلته، وتعريفه بعالم الجنس ومفرداته بشكل سليم، وتعليمه معنى البلوغ والنضج، والتغييرات التي تطرأ على جسده، وأساليب حماية نفسه وضبط سلوكه، فأن تكون الأسرة مصدر المعلومة وبشكل صحيح، أفضل من لجوء الطفل إلى مصادر أخرى غير موثوقة الأهداف والغايات.

*تعرّض الطفل لمشاهد جنسية واقعياً أو افتراضياً

يتعلم الأطفال بالقدوة، ويقلدون ما يتعلمونه، وكثير من سلوكاتهم غالباً ما تكون محاكاة لما يشاهدونه، ويجد عدد من التربويين والمتخصصين النفسيين، إن تعرّض الطفل لمشاهدة الممارسة الجنسية أو السلوكات ذات الطابع الجنسي، من أبرز وأهم العوامل التي تكمن وراء سلوكهم بالتحرش والاعتداء.

فمشاهدة الطفل لوالديه، أو أي حالة جِماع واقعية، من أكثر الأحداث التي تترسّخ في ذاكرته، ومع الخجل من السؤال، وغياب تفسير الأهل لهذا السلوك، قد يقوم الطفل بتقليده مع أحد أخوته، أو أقرانه.

كما إن إغراق عالم اليوم بالصورة، والمؤثرات الجذابة في مواقع التواصل الاجتماعي، وتعلّق الأطفال بشبكة الانترنت التي تعرض مواد إباحية، وصور مختلفة تحمل إيحاءات جنسية، أو تصور سلوكات ذات طابع جنسي، كل هذا يؤثّر في مخيلة الأطفال والناشئين، ويُشكّل لديهم مادة خام تبدأ بالتخمّر داخل مخيلاتهم، وتدفعهم بلحظة ما للقيام بهذا السلوك، لذلك على الأسرة والمدرسة تنبيه الطفل ومتابعته، ومعرفة ماذا يُتابع، وتفسير الكثير مما يراه، من خلال توضيح الفروق بين الثقافات من جهة، والشرح حول دوافع من يعرضون مثل تلك الأفلام والصور.

*الاضطراب النفسي والمشكلات النفسية والاجتماعية عميقة الأثر

يتعرض الأطفال للعديد من المشكلات النفسية والجسدية، والتي قد تتطور لتُصبح اضطراب أو مرض، وعند تكرار سلوكات ذات طابع جنسي، وغير مبررة لدى الطفل، ينبغي البحث في الأسباب الكامنة وراءها طبياً، ونفسياُ ، واجتماعياً، فاضطرابات الشخصية كثيرة، ومنها ما يرتبط مباشرة بهذا السلوك، كاضطراب الشخصية النرجسية المفرطة، والشخصية المضادة للمجتمع، والسلوك العدواني، والعديد من الاضطرابات المرتبطة بخلل بالجهاز العصبي والهرمونات والغدد الصم، والتي تسبب اضطراب سلوكي عميق الأثر في شخصية الطفل وطباعه وتصرفاته.

كيف تتصرف الأسرة إذا عرفت أن ابنها متحرّش أو معتدي؟

تُصاب غالبية العائلات بالصدمة، عندما تكتشف أن طفلها متحرّش، أو معتدي، وغالباً ما ينجم عن هذه الصدمة تصرفات غير سليمة تجاه الطفل، وبدلاً من معالجة مشكلاته وحلّها، فإنها تزيدها تعقيداً وترسّخها، فكثير من الأطفال وخاصة في سن المراهقة، تتسم طباعهم بالعناد وتحدي الأهل و المحيط، بدافع حب الاستقلال والتمرد والرغبة بتوكيد الذات، لذلك قد يقوم الطفل بتوكيد سلوك ما على سبيل التحدي والعناد، فكيف تتصرف الأسرة إزاء سلوك طفلها هذا؟

على الأسرة تجاوز صدمتها بكثير من الصبر، والتعامل مع الأمر بهدوء مُطلق، وعدم التعامل مع الطفل كونه “مجرم”، واحتضان الطفل أولاً، ومنحه شعور بالأمان والسند الذي يُمكن أن يتكىء عليه، ومن ثم فتح حوار هادىء معه، والبحث في كل تفاصيل هذا السلوك، وشرح خطورته على الطفل وعلى الآخرين، فكثير من سلوكات الأطفال ذات الطابع الجنسي ممكن إزالتها بسهولة إذا عرفت الأسرة كيف تتعامل مع الطفل.

كما يجب معرفة أي حدث الطفل طرف فيه، من خلال الطفل نفسه، وليس من خلال الآخرين، أو عبر التلصص عليه ومراقبته، فكلّما شعر الطفل بذلك، فقد ثقته بالأسرة، وأخفى عنها سلوكاته ومشكلاته، وبمعرفة الأسرة تفاصيل الحدث من الطفل نفسه، تتوضح الكثير من الأمور الغامضة والمُلتبسة، وقد يُمحى كلياً هذا السلوك من حياة الطفل، في حين قد يحدث العكس ويترسّخ أكثر في حال تم التعاطي معه بعنف، وأسلوب فج.

كما من الواجب تجنب التفكير بأسلوب “الفضيحة”، وعدم الحديث عن الطفل مع الأقارب والمحيط بهذا الشأن، فأكثر ما يؤلم الطفل هو تشوه صورته لدى الآخرين، وتعرضه لجرح الذات أمام أقرانه.

بعض الأسر تتخذ حيال هذا الأمر، موقف الإنكار، ولا تصدق أن طفلها يقوم بهكذا سلوك، عندما تأتي الشكوى على الطفل من الغرباء أو من المدرسة، وحالة الإنكار هذه أحد أهم ردود الفعل التي تقوم بها الأسرة وأبرزها، حيال أغلب مشكلات الأبناء ذات الطابع الاجتماعي والنفسي للأسف، وإزاء هذه الحالة من واجب الجهات المعنية كالمدرسة ومؤسسات الشرطة المجتمعية، التعامل مع الأسرة بطريقة إنسانية وتفهّم ما هي عليه، وشرح حالة طفلها بروية وهدوء، وتقديم المساعدة لها، ودعمها لحل مشكلة الطفل دون خسارات.

ما ينطبق على الأسرة، أيضاً ينطبق على المدرسة، وعلى الكادر التربوي المعني في المدارس، التعامل مع هذه المشكلة بشكل مُرضي، وعلاجها بأسلوب تربوي صحيح، والبعد عن فضح الطفل بين أقرانه، والتسبب بمشكلات أكبر وأكثر حجماً.

وعند عجز الأسرة أو المدرسة، عن علاج هذا السلوك، من الواجب تحويل الطفل إلى أخصائي نفسي، وطلب المساعدة المتخصصة طبياً ونفسياً.

حماية الطفل حتى من نفسه، هو واجب الأسرة ومؤسسات المجتمع المختلفة، وعلى جميع هذه الأطراف أن تتضافر جهودها، من أجل مساعدة الأطفال على تجاوزهم مشكلاتهم، وومعالجة سلوكهم المضطرب أو المُنحرف، من أجل ضمان مستقبل أفضل وأكثر سلامة لهم ولمجتمعاتهم، ولذلك من الضرورة ترشيد استخدام الأطفال لوسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الانترنت، وأهمية وجود مناهج التربية الجنسية في المدارس، وبرامج التوعية الموجّهة للأسرة طوال الوقت، وليس على طريقة الحملات التي تأخذ شكل المواسم وتنتهي وينتهي أثرها معها.  

*المصادر:

*التربية الجنسية، محمد الحاج علي، مكتبة ابن خلدون، الطيبة، 1991م.

*الإساءة الجنسية للأطفال/ الواقع وسبل المعالجة، وقائع المؤتمر الدولي الافتراضي، المركز الديموقراطي العربي، برلين، 2021م.

*جرائم الشذوذ الجنسي، صلاح رزق عبد الغفار يونس، دار الفكر والقانون، مصر- المنصورة، 2010م.