الجريمة المسكوت عنها … العنف الجنسي والصحفيون

استطاع الإعلام عندما قرر مجابهة قضية التحرش الجنسي، والاعتداءات الجنسية المتكرّرة، وما رافقها من عنف في الهند بكل مناطقها، رمي حجر في المياه الراكدة وتسليط الضوء على هذه القضايا، وبالتالي إرغام المسؤولين على تحسين مقاييس الأمن والسلامة في العاصمة وسوق المعتدين إلى المحاكم، وذلك إثر تعرض طالبة طب ( 23 عاماً ) لاغتصاب جماعي في حافلة، ووفاتها بعد فترة قصيرمتأثرة بهذا الاعتداء الوحشي، وعبر تغطيته الواسعة لأخبار هذه الجرائم في صدر صفحاته الأولى، إلى جانب التقارير اليومية التي ينشرها عن حالات الاغتصاب الجديدة المُبلغ عنها في جميع أنحاء البلاد،  بعد أن كان يدفنها بين صفحات مكتظة باليوميات السياسية في البلاد.

ساعدت التغطية الإعلامية، وطبيعة القضية نفسها، على إعادة تشكيل التوجهات العامة بشأن العنف الجنسي، وأفادت الصحفية “أورميلا تشانام” للجنة حماية الصحفيين، وهي كاتبة في صحيفة سانغاي إكسبرس الناطقة بالإنكليزية، والتي تصدر في شمال شرق الهند: (لقد تغيرت الطريقة التي تفكر فيها الفتيات تغيراً كبيراً بعد هذه القضية)،  مستطردة القول: (ولكن يمكن أن نتسبب بضرر أكبر من حيث لا ندري)، وأوضحت قائلة أن التغطية الصحفية حول العنف الجنسي (تُقلق العناصر الثقافية في بلدنا)، ومع ذلك تريد “تشانام” في نهاية المطاف، والتي تساهم أيضاً في نشرات منظمة 0 وورلد بلس  ( أن تتم تغطية كل حالة ) وقالت أنها تتيح الخيار للضحية فيما إذا كانت ستورد تغطية صحفية حول حالات الاغتصاب الفردية، في حين تتعاون على نحو أوسع مع الناشطين من أجل تغيير الطريقة التي ينظر فيها الجمهور إلى العنف الجنسي.

من مظاهرات عمّت الهند احتجاجاً على تكرار حوادث الاغتصاب – وكالات

بقيت مواقف الحكومة الهندية بشأن هذه الاعتداءات مختلطة ومتباينة، ففي حين أدّت الضغوط التي مارستها الصحافة الوطنية إلى اهتمام غير مسبوق، الأمر الذي ساعد على اعتقال الكثير من الجناة، ولكن وعلى ما يبدو أنه رد فعل على التغطية الصحفية الواسعة، حظرت محكمة البداية التغطية الصحفية للمحاكمة السريعة، وذلك لمدة شهرين، بيد أن السلطات الهندية اضطرت إلى رفع الحظر عن التغطية الصحفية، على إثر صدامات عديدة بين الصحافة والسلطات،  والسماح لصحفي واحد من كل مؤسسة إعلامية معتمدة من دخول المحكمة، إلى جانب منعهم نشر أسماء الضحايا والشهود، وعلى الرغم من ذلك منع القاضي -على نحو تعسفي- صحفي بريطاني من صحيفة الاندبندت من تغطية المحاكمة.

تشهد الهند جرائم اغتصاب، واعتداءات جنسية وحشية، شكّلت هاجساً مرعباً للسكان، حيث وصلت أعداد ضحايا هذه الجرائم الجنسية في عام 2016م التي تم الإبلاغ عنها 40 ألف جريمة.

 ثمة اعتقاد بأن هناك الكثير من الجرائم لا يتم الإبلاغ عنها، بسبب الوصمة المرتبطة بالاغتصاب والاعتداء الجنسي،  واعترفت “رانجانا كوماري” مديرة مركز البحوث الاجتماعية في نيودلهي، إن التغطية الإعلامية الواسعة لحالات الاغتصاب سرّعت عمل الشرطة، كما كان هناك بعض التغييرات المتوقع أن يتم إجراؤها على قانون العقوبات في البلاد.

جرت العادة في الوسائل الإعلامية تجنب ما أمكن التطرق إلى مسألة الجرائم الجنسية، نظراً لحساسية الموضوع، والذي يقارب المحظورات في تناوله، وبالتالي غالباً ما يبقى دون تغطية صحفية، وخاصة أنها تؤدي إلى تبعات سريعة وغير متوقعة، ويمكن أن تشكل خطراً على الصحفي، مما يترك العديد من الصحفيين وغيرهم، مترددين حيال التغطية الأفضل للتعامل مع هذه المخاطر.

 يتعين على أي شخص يورد تغطية حول قضية عنف جنسي، أن يكون مدركاً للمخاطر المحتملة، ليس عليهم فقط، بل وحتى على ضحايا الاعتداءات أيضاً، وفي هذا الصدد أفاد “عبد العزيز عبد النور” للجنة حماية الصحفيين، وهو صحفي صومالي اضطر إلى مغادرة بلده بعد أن نشر تغطية حول اعتداءات جنسية، ( ينبغي على الصحفي التفكير في سلامة الشهود ومصادر المعلومات).

مكسيكيات يتظاهرن احتجاجا على اغتصاب شرطيين لقاصرات، عام 2019م – وكالات

كان عبد النور قد أجرى مقابلة مع الضحية التي اعتدى عليها جنود صوماليون، بثت قناة الجزيرة الناطقة بالانكليزية تقريراً عن الحادثة، ووجهت إليه السلطات حينها سلسلة اتهامات بما فيها: ” إهانة مؤسسات الدولة” و” التغطية الصحفية الكاذبة”، وكذلك اعتقلت الشرطة الضحية ووجهت إليها تهم مشابهة، حتى وصلت الأمور في الهند إلى اعتقال أحد الصحفيين لمدة 4 أشهر كونه صور اعتداءات شبان على مجموعة نساء، وساعدت مقاطع الفيديو التي صورها في التعرف على عشرات المشتبه بهم، والغريب أن التهمة الموجهة له كانت مشاركته في الاعتداء، واعتبرت لجنة حماية الصحفيين، أن اعتقال الصحفي كان مدفوع بالرغبة في معاقبته لتغطيته هذه الاعتداءات.

ومن وجهة نظر الصحفية “سورويا شيمالي” الكاتبة المستقلة في العديد من وسائل الإعلام، أن الإعلان عن حالة اغتصاب ( قد يكون خطيراً جداً على ضحايا الاغتصاب أنفسهم)، بسبب مفهوم ” الشرف ” القائم على النوع الاجتماعي، والذي يمثل سبباً آخر لإبقاء حالات العنف الجنسي بعيداً عن الصحافة.

تتصدر الدول الإسلامية قائمة الدول التي يعمل فيها مفهوم الشرف للأسرة، أو التصورات بشأنه على الإبقاء على الاعتداءات الجنسية بعيدة عن الصحافة، وفي هذا الصدد أفاد الصحفي الأفغاني “علي شهيدي” للجنة حماية الصحفيين:(إنهم يحافظون على سرية الموضوع قدر الإمكان حتى يحمون شرفهم).

تعلق الناشطة الاوغندية “أتشينغ بياتريس” للجنة حماية الصحفيين قائلة: ( أحياناً ينبغي الكشف عن هوية الضحايا من أجل حمايتهم، وأحياناً لا تكشف عن هوية الضحية، وذلك كي تحمي نفسك).

ثمة سبب آخر يدفع إلى عدم تغطية جرائم العنف الجنسي، وهو أن قوات الأمن الحكومية هي من أكثر مرتكبي العنف الجنسي، وهذا ما أكدته الصحفية “لورين وولف”، الحائزة على عدة جوائز، والتي تعمل على توثيق حالات اغتصاب، وغيرها من أشكال العنف الجنسي  في مناطق النزاع، وتقول: (معظم الناس الذين نتحدث معهم يمتنعون عن الإبلاغ بشأن الاعتداءات بسبب خوفهم الشديد)، وقد ساعدت “وولف” في توثيق العنف الجنسي في أفغانستان، وكشمير، والسودان وسوريا، وقد أعدّت تقريراً للجنة حماية الصحفيين بعنوان ” الجريمة المسكوت عنها.. العنف الجنسي والصحفيون”

وتقول الصحفية “شيمالي”، إن (مشاعر التفوق لدى الذكور، تُعتبر أحد الأسباب الرئيسة التي يواجهها الصحفيون فيما يخص الإبلاغ عن العنف الجنسي، إذ يشعر الرجال بأن لديهم حق ارتكاب الإساءات، ولديهم حق بارتكاب الاغتصاب).

تتضمن سجلات لجنة حماية الصحفيين عدداً من الحالات، التي تعرض فيها صحفيون لإجراءات انتقامية، بسبب تغطيتهم لحالات اعتداءات جنسية، ومنها حالة الصحفية والناشطة المكسيكية “ليديا كاشو”، التي واجهت اتهامات جنائية ملفقة، وتهديدات بالعنف، لأنها استطاعت تسجيل محادثات هاتفية بين عدة أشخاص، ومن بينهم حاكم ولاية بيوبلا، ورجل أعمال محلي، وتسليمها إلى مكاتب صحيفة “لا غورنادا”، وإحدى الإذاعات في مدينة نيومكسيكو، ويتبين من حديث الرجال الواردة في التسجيل، بأنهم يخططون لسجن الصحفية “كاشو”، واغتصابها في السجن، لأنها كشفت سابقاً عن عصابة تزاول الدعارة، وتتداول الصور الخلاعية مع الأطفال، ومن بين المتورطين فيها مسؤولين حكوميين.

ورغم ذلك، ينصح الصحفيون الذين يمتلكون خبرة في التغطية الخاصة بالعنف الجنسي زملائهم باحترام رغبات الضحايا ومصالحهم، كي لا يزيدوا من وضعهم سوءاً، وتقول “شامان” بهذا الصدد: “(نحن نترك القرار للضحية).

*إعداد: دلال ابراهيم، صحفية ومترجمة، وعضو مؤسسة نداء.