احموا أطفالنا…للحفاظ على القاع الأخير من الضمير الإنساني

*الأطفال هم الأيادي التي نمسك بها السماء، فلا تقطعوها!

لا أخفيكم سراً، إننا وبحكم عملنا في مؤسسة نداء لحماية الأطفال من الاستغلال الجنسي، منذ فترة ليست بالبعيدة، لا زال يخيم علينا الصدمة والذهول، ويتملكنا الرعب والاستغراب معاً، من قصص تطالعنا عن حوادث الاغتصاب الفظيعة التي يتعرض لها الأطفال، سواء أكان من حيث تواليها المتكرر، أو فظاعتها، أي بلغة التجارة والمال ( كماً ونوعاً )، حتى أننا في كثير من الأحيان نتحاشى ذكر التفاصيل، فهي تفاصيل لا تهيضها الأقلام، ولا تتوسع لها السطور، وإن أقل ما يمكن أن نقول عنها، أنها موت للإنسانية والضمير الحي، طعنة في عافية المجتمع الانساني بكامله.

 تذكرت هنا رواية لوليتا للروائي الروسي “فلاديمير ناباكوف”، الصادرة في عام م،1956 وكيف أبت نشرها كل دور النشر الأميركية حينها، بحجة أن الرواية تحكي عن علاقة رجل مسن بفتاة تبلغ الثانية عشر من عمرها. ووحدها دار أولمبيا المتخصصة بالأدب الأيروتيكي في فرنسا، وافقت على نشرها.

*غالبًا ما يقنع صمت البراءة النقية، عندما يفشل الكلام، فكونوا صوت الأبرياء

 أي قصة لا يتقبلها الضمير الإنساني، ولو أنها يمكن أن تحدث، ولكن هذه القصص لم تعد مجرد حوادث فردية متشتتة، تحدث خلال فترات متباعدة، بل باتت ظاهرة مخيفة، تدعو لقرع جرس الخطر.

 في آخر تقرير صدر منذ بضعة أيام في بريطانيا، اعتبر الاعتداء الجنسي على الأطفال، وباء لخطورته وسعة انتشاره، ولكن كل الأخطار يمكن مقارعتها .. إلا هذه الأخطار الفظيعة، لأن لها بذور تنتشر بصمت في باطن المجتمع.

 صورة كاشفة للانهيارت الداخلية لدى الانسان، حيث التشوه يمتد نحو مناطق جديدة وخطرة، يتطلب التصدي له بحزم، لكي يتم استعادة مهابة الشر إزاء كل ما هو بريء وجليل، كالطفولة.

 إنه يمس أكثر القيم حساسية، والضمان الوحيد لطمأنينة المجتمع، وكيف لا وانتهاك البراءة أشبه بإعلان ” موت شامل للإنسان”.

 في وقت لا زالت فيه مجتمعاتنا العربية والإسلامية بشكل خاص، تقول أن تلك الحوادث لا تمثل مجتمعاتنا !! وكأنها دعوة للتنصل من مسؤوليتنا تجاهها، بينما لا تنظر إليها القوانين الوضعية لدى المحاكم أكثر من ( هتك عرض ) أو أفعال ( منافية للحشمة )، وأبقت مصطلح الاغتصاب محصور في ( مواقعة رجل لإمرأة ).

 يزداد خوفنا من استدراج المجتمع، نتيجة تفشي حالات كهذه لتقبل الجرم وكأنه شيء عادي، وهذا ما لا يمكن تقبّله، وسيظل في كل الأحوال وعلى مر الأزمان، رفض قطعي لمثل هكذا قضايا، لا يمكن للعقل البشري تقبّلها، ولا تبريرها مهما انجررنا لهدم القيم، فهناك أحداث لا يمكن لعقل بشري تقبّلها مهما كان انتمائه الديني أو الطائفي أو العرقي.

*ثقة الأبرياء هي الأداة الأكثر فائدة للمجرم

نفهم أن ثمة جرائم تحصل، يمكن تَفَهّم دوافعها وتقبّلها، بالنظر إلى نوازع الشر المتأصلة في النفس الإنسانية، بيد أن هذا الشر مهما اتسع مداه، لا بدّ أن يقف عند حاجز ولا يتعداه، أشبه ما يكون بالحاجز المعنوي للضمير الإنساني، دونه يفقد الوحش مخالبه، ويتهاوى أمام منظر الطفولة، وكأنّه يقول لنا: (قف، هنا منطقة محرمة)، فهذه الطفلة أو الطفل الذي ينظر إلى المجرم بنظرات تجلّلها البراءة، ولا شيء غيرها، حتى الخوف من المجرم ليس موجوداً، فالأطفال لا يعرفون ويفقهون ما الذي يفعله هذا الوحش البشري، ولم يطوروا بعد مفهوماً خاصاً للجنسانية وصورة الجسد، يحدّقون به بعينيين صافيتين، ويستتبطون الشر بفطرتهم، لكنهم لا يفهون ولا يعرفون كيف يدفعونه بعيداً عنهم.

لا أفهم كيف لا يسقط هكذا بشري أمام هذا المشهد، وجلاً، عندما يستبيح هكذا منطقة، إنه هتك موحش للفضيلة في أكثر مناطقها الآمنة، ولا يمكن لأكثر الناس رحمة، أن يجد مبرراً لهذه الحالة من الميوعة القاتلة للنفس، والطباع، سوى أننا أمام حالات مفزعة، تقع على حافة الهاوية القصوى للطباع المتسفلة، وقامت بأذية جماعية، ليس للأطفال بل والضمير المجتمعي العام.

اعترف أنني في معظم الجرائم، لا أحبذ المبالغة في القسوة على المجرم. ولا أنساق مع الهياج الجماعي المبالغ فيه ضدهم، بل أرى ذلك نوع من اللؤم البشري، حيث الجميع يود التطهّر من خطاياه، بالمبالغة في جلد المجرم، وأسعى للبحث له عن مبرر، لأنني دوماً أذهب لتأمل دوافع الجريمة طويلاً، وأنا مقتنعة أن ظروف حدوثها في الواقع مختلف عن الصورة النهائية للجريمة، مهما كانت شريرة، ولكن هذا الطبع يوجد لدى أولئك الذين يرتكبون جرائم تأتي تحت بند المحتمل، سواء أكانت في دائرة الضعف البشري، الجشع والخوف، وحتى حمّى الغريزة والطباع الرخوة، ولكن لا شك أن هذا لا ينطبق مع الجرائم بحق الأطفال.

أنا وبكل ما أتحلى به من رحمة وتفهّم عميق للإنسان، أشعر بالخطر، وأدعو بشدة مبالغ فيها، إلى ضرورة أن يلقى مجرم الأطفال عقوبة تعيد للناس إحساسهم العالي بقيمة الفضيلة، وكيف يتوجب علينا أن نكّشر عن صرامتنا وتشددنا في قوانيننا، كي نحمي مجتمعاً كاملاً من التفسخ، ونحافظ على هذا القاع الأخير من الضمير البشري.

*دلال ابراهيم، نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة نداء/ الفريق الإعلامي.